مقالات الأعضاء

العلمانية (14): هل أسّس الإسلام فعلاً لدولة الخلافة الإسلامية؟ (2)

يرى البعض أنّ هناك في الإسلام ما يشبه أن يكون من مظاهر الحكومة السياسية وآثار السلطنة والمُلك:

أولاً: الجهاد: فقد غزى الرسول المخالفين لدينه من قومه العرب وفتح بلادهم وغنم أموالهم وسبى رجالهم ونساءهم، وامتدّ بصره إلى ما وراء جزيرة العرب واستعدّ للتحرك بجيشه في جميع أقطار الأرض فبدأ فعلاً يصارع دولة الرومان في الغرب ويدعو كسرى في الشرق للانقياد لدينه، وكذلك نجاشي الحبشة ومقوقس مصر…إلخ. فظاهر الأمر لأوّل وهلة أنّ الجهاد لم يأتِ لمجرد الدعوة إلى الدين وإنّما جاء لتوسيع المُلك وتثبيت السلطان. ويرد هنا عبد الرّازق على هذه الحُجّة، أنّ دعوة الدين دعوةٌ إلى الله تعالى، وقوام تلك الدعوة لا يكون إلّا البيان وتحريك القلوب، وهذا لا يتم إلّا بوسائل التأثير والإقناع، أمّا القوة والإكراه فلا يناسبان دعوةً يكون الغرض منها هداية القلوب وتطهير العقائد، وما عُرف في تاريخ الرُسل والأنبياء رجلٌ حمل الناس على الإيمان بحد السيف ولا غزى قوماً في سبيل الإقناع بدينه، وهذا هو نفس المبدأ الذي التزم النبي به فيما كان يُبلّغ من كتاب الله، حيث قال الله: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة/256]، (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل/125]، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية/21-22]، (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران/20]، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس/99].

ثانياً: الأعمال المالية: كان في زمن النبي عملٌ كبيرٌ متعلقٌ بالشؤون المالية من حيث جمع المال من مصادره المتعددة كالزكاة والجزية والغنائم… إلخ، ومن حيث توزيع المال على المصروفات وهذا لا شك أنّه أحد أعمال الحكومات وخارج عن وظيفة الرسالة والتبليغ أي عن عمل الرُسل باعتبارهم رُسلاً فحسب.  ولكن هذه الأعمال لا تصل إلى درجة المعاملات التي تتصل بالأموال والتي تقوم بها أقل الحكومات في وقتنا الحالي.

ثالثاً: تولية الأمراء والقضاة: لا شكّ في أنّ القضاء كان موجوداً في زمن النبي كما كان موجوداً عند العرب وغيرهم قبل الإسلام، وكان الرسول قد قلدّ بعض الصحابة مهمة القضاء والولاية في زمنه، منهم عمر بن الخطّاب وعلي بن أبي طالب الذي بعثه الرسول إلى اليمن غازياً وقاضياً كما بعثه كذلك ليقبض الخمس من الزكاة قبل حجة الوداع، حيث نقل علي بن برهان الدين الحلبي أنّ رسول الله بعث علياً في سريةٍ إلى اليمن فأسلمت همدان كلّها في يومٍ واحدٍ، وهذه هي السرية الأولى. أمّا السرية الثانية بعث فيها الرسول علياً إلى بلاد مذحج من أرض اليمن في ثلاث مائة فارس فغزاهم وجمع الغنائم ثم رجع فوافى النبي بمكة. وكذلك بعث معاذ بن جبل قاضياً إلى الجَنَد من اليمن يعلّم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم وجعل له قبض الصدقات. وبعث أبا موسى الأشعري أيضاً إلى اليمن لكن باتجاهٍ مخالفٍ للذي ذهب إليه معاذ بن جبل. ممّا سبق كلّه يُلاحظ أنّ النبي لم يُعيّن في البلاد التي فتحها الله له ولاةً لإدارة شؤونها وتدبير أحوالها وضبط الأمر فيها، وما يُروى عن ذلك فكلّه عبارة عن تولية النبي لشخصٍ أميراً على الجيش أو عاملاً على المال أو إماماً للصلاة أو معلماً للقرآن أو داعياً إلى كلمة الإسلام، ولم يكن هذا التعيين مستمراً وإنّما كان يحصل لوقتٍ محدود، وهذا ما يظهر جلياً فيمن كان يستعملهم الرسول على البعوث والسرايا أو يستخلفهم على المدينة إذا خرج للغزو.

فالأعمال التي كان يُباشرها النبي والتي تتصل بالقضاء والولاية والمعاملات التي تتصل بالأموال ومصارفها وكذلك حراسة الأنفس والأموال وغير ذلك من الأعمال التي لا تقوم بدونها أقل الحكومات والتي لا يكتمل معنى الدولة إلّا بها، كانت على درجةٍ كبيرةٍ من البساطة ولم تكن واضحة كل الوضوح ولذلك يمكن القول أنّه لا وجود لنظام حكومةٍ نبويةٍ.

        وهناك بعض آيات القرآن وبعض أحاديث الرسول والتي قد يستند إليها البعض ليزعُم أنّها تُشكّل دليلاً على الخلافة وهي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء/59]، (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء/83]، إنّ هذه الآيات لا تُفيد بمعناها بالضرورة الخلفاء فالمفسرون أكدّوا أنّ أولي الأمر في الآية الأولى يُقصد بهم أمراء المسلمين في عهد الرسول والأمراء الذين قد يختارهم المسلمون من بعده ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية وعلماء الشرع وغيرهم… وفي الآية الثانية كان يُقصد بهم كبار الصحابة الذين كانوا بُصراء بالأمور، فبالنتيجة يُقصد بأولي الأمر الفئة من المسلمين الذين تُرجع إليهم الأمور وتدبيرها فالمعنى أعمّ بكثير من الخلافة.

وأمّا ما ورد في السُنّة من أحاديث رويت عن النبي كقوله: ” الأئمّة من قريش “، ” من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتةً جاهلية “، ” من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليعطه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر “، ” اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر…” فإنّ هذه الأحاديث لا تصح دليلاً على الخلافة، وعلى افتراض صحة هذه الأحاديث وعدم زيفها يقول عبد الرّازق أنّ هذه العبارات التي جاءت في هذه الأحاديث والتي وردت في لسان الشرع ليس المراد بها بيعة الخليفة أو الخلافة أو أصحاب الإمامة بالضرورة. فحين تكلم النبي عيسى بن مريم عن حكومة قيصر وأمر بأن يُعطى ما لقيصر لقيصر، لم يكن هذا اعترافاً منه بأنّ حكومة قيصر هي جزء من شريعة الله، وكذلك عندما ذكر النبي محمد البيعة أو الإمامة وغيرها من التعابير فهذا لا يدل على شيء أكثر ممّا دلّ عليه المسيح عندما ذكر بعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر. فإذا كان صحيحاً أنّ النبي أمر المسلمين بطاعة الإمام الذي يبايعونه، فقد أمر الله المسلمين بأن يفوا بوعدهم لمشركٍ عاهدوه، فما كان ذلك دليلاً على أنّ الله رضي الشِرك. وكذلك الأمر الشرعي بطاعة البغاة والعاصين في حال كان في مخالفتهم فتنةٌ تُخشى فهذا ليس دليلاً على مشروعية البغي ولا على عدم جواز الخروج على الحكومة. كما أنّ الله قد تحدّث عن الرق ونظّم شؤونهم فهذا ليس دليلاً على أنّ الرِق مأمورٌ به في الدين ولا على أنّه مرغوبٌ فيه. من هذا كلّه يُستنتج أنّ ليس كل حديث ذُكر وإن صح هو صالحٌ ليشكل أساساً لادعاءٍ بوجوب شرعي، فإنّ دعوى الوجوب الشرعي دعوى كبيرة، أي أنّ الادعاء بأنّ أمر ما واجب شرعاً هو ادعاء كبير لا يجوز أن يقوم إلّا على أسانيدٍ واضحة وقطعية.

في النهاية إنّه لأمر عجيب أن تأخذ بيديك كتاب الله وتقرأ ما بين دفتيه بالكامل، فترى فيه تصريفاً وتفصيلاً لكل أمرٍ من أمور الدين، لكنك لا تجد فيه ذِكراً وتفصيلاً لما يُطلقون عليه الإمامة العامّة أو الخلافة أو الحكومة النبوية، وهذا ما أكّده الله بقوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام/38]. فقد نظّم الله الصغير من أمور الدين قبل الكبير، فذكر أنصبة الإرث وتحدث عن المهور في الزواج وعن عدة النساء وغيرها من الأمور، فهل يغفل الله عن أمرٍ بالغ الأهمية كبناء دولةٍ وتنظيم كيانها السياسي ووظائفها؟

عقب توضيح موقف الإسلام من الدولة والتي كانت نتيجة جانبيّة لنشر الدعوة التوحيدية، الآن أصبح من الممكن تتبّع تطوّر الدولة التي أنشأها المسلمون عبر التاريخ وعلاقتها بالدين.

يتبع….

الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى