مقالات الأعضاء

العلمانية (4): متى نكون حقًّا أمام دولة علمانية وأمام مجتمع علماني؟

تبعًا لمقالنا السابق ” أسس العلمانيّة “ وهي حريّة المعتقد، المساواة بين المواطنين أيّاً كانت قناعاتهم الروحية أو جنسهم أو أصلهم، والتطلع للصالح العام والخير المشترك للجميع كمبررٍ وحيدٍ لوجود الدولة، فإنّ الأخذ بالعلمانية في دولةٍ ما أو مجتمع ما يستتبع بالضرورة التطبيق الكامل لعدّة قواعد، وفي حال لم تتم مراعاتها فلا نكون أمام دولة علمانيّة حقيقيّة وإنّما أمام علمانيّة فارغة، شكلية بغير مضمون، تقتصر على شعاراتٍ تتشدّق بها الدولة ويدّعيها المجتمع لكن لا نراها مطبّقة على أرض الواقع، هذه القواعد هي:

         1- أن يكون لكل فردٍ حرية تحديد هويته الشخصية:

         أي لكل إنسانٍ فردٍ بُعده الشخصي الذي لا ينفصل عن حرية امتلاك ما يُعرّف به نفسه مؤقتاً أو في لحظةٍ معينة، لذلك لا يمكن إخضاع الهوية الفردية لما يُطلق عليه ” الهوية الجماعية “. فالعلمانية تحرص على عدم حشر المواطنين قسراً في مجتمعاتٍ دينيةٍ خاصةٍ بإجبارهم على تعريف أنفسهم بتبعيةٍ دينية أو بتبعيةٍ ثقافية معينة.

         فالعلمانية تؤمن بالهوية الشخصية التي هي بناءٌ يعود إلى الخيار الحرّ للفرد، فلا يمكن اختزال هوية شخصٍ ما بمجرد الولاء أو الانتماء لجماعةٍ خاصة، فحق الفرد يتقدم على الاعتراف بالجماعة التي يُقال أنّه ينتمي إليها. وعليه فمنح الحقوق للجماعات يمكن أن يُعرّض الأفراد الذين يُقال أنّهم ينتمون إليها، وهم في الحقيقة لا يشعرون بالانتماء إليها، أو ينتمون إليها بمجرد مقدارٍ ضئيلٍ، إلى خطر الاستلاب. فهل يجوز إكراه الصبية المسلمة التي ترفض ارتداء الحجاب على ارتدائه باسم حق الجماعة التي تنتسب إليها؟ وهل تُعتبر المرأة من مالي التي تثور ضدّ القطع التقليدي للبظر خائنةً لثقافتها؟ والمرأة المسيحية التي ترفض قصر العلاقة الجنسية على الإنجاب هل يُقبل أن تُدان من السلطات الكنسية؟ توضح هذه الأمثلة خطر ربط هوية الفرد بالجماعة التي ينتمي إليها وليس بشخصه هو، فحق وحرية الاختلاف هو حق وحرية الإنسان في أن يختلف مع كل ما يحيط به. فحرية تحديد الهوية هي حريةٌ أساسيةٌ يتمتع بها الكائن البشري ليقرر مصيره، وهي تفترض أن يتبنى الإنسان بحريةٍ تامّةٍ العوامل التي يراها تتصل بهويته بدلاً من أن تُفرض عليه عواملٌ خارجيةٌ عبر ضغوطاتٍ واشتراطات، إلّا أنّ حرية تحديد الفرد لهويته الخاصة لا تفترض أنّ الفرد هو كائنٌ مجردٌ من لحمه ودمه وشبحٌ مجردٌ من كل تاريخ وكل تراث عاطفي أو رمزي، بل هذه الحرية في الحقيقة تقود المرء وتسمح له بالتفكير في حالته الشخصية، وفي ماضيه ليحدد هويته بنفسه وليتصرف بحريةٍ في مرجعياته الثقافية وألّا يكون محكوماً وملزماً بها، فالفرد قد لا يوافق بالضرورة على كل التقاليد التي تعبّر الثقافة عن نفسها من خلالها، فهو يتعلّم في ظلّ العلمانية أن يعيش ثقافته الخاصة التي قد لا يُشاطره بها أناسٌ آخرون بالضرورة، وهكذا يعيش الفرد انتسابه لثقافةٍ ما بشكلٍ متحررٍ فلا يكون حبيساً فيها ومغلقاً عن الآخرين وعن العالم. بالنتيجة الثقافة التي تهدف إلى فرض نفسها على الناس لم تعد ثقافة إنّما هي سياسة ولا يمكن أن تكون إلزاميةً دون أن تثلم حقوق الأفراد، وكذلك الأمر بالنسبة للدين أيضاً.

2- أنّ احترام الدين والثقافة لا يعني احترام مضامينها:

         تهتم العلمانية بخلق عالمٍ مشتركٍ بين الجميع وموحد، بحيث يكون الأشخاص بمختلف خيارتهم الروحية مُتَحلّين بالاحترام المتبادل سنداً إلى حرية الاعتقاد وحرية الفكر. ويُوَجه هذا الاحترام للشخص ذاته وليس لمحتوى معتقداته، فالمعتقدات يجب أن يُسمح بمناقشتها بحريةٍ تامّةٍ بل ونقدها بشدةٍ كذلك، فاحترام أصحاب العقائد وحريتهم في معتقدهم لا يعني بالضرورة احترام ما تتضمنه معتقداتهم، وكذلك للكُتّاب حرية السخرية والاستفزاز لكن هذا لا يعني أبداً احترام مضامين أقوالهم، فلسلمان رشدي الحق في التهكّم على الإسلام مثلما تهكّم فولتير على الكاثوليكية.

         فإنّ قبول الاختلاف بين الناس لا يعني أن يُحرّم على المرء إبداء رأيه في الممارسات التي تكرس سلطة الهيمنة والإخضاع، فاحترام كل الثقافات لا يعني احترام كل ما فيها مما هو غير جدير بالاحترام أو القبول بحد ذاته؛ حيث تكمن الحدود القصوى لاحترام الاختلاف في بُعد الظلامية التي تُنتجها الممارسات القمعية والتي يعارضها بعض الأفراد من قلب الثقافة ذاتها، فإنّ بعض الأفغانيات والجزائريات يرفضن الحجاب وبعض الماليات والسنيغاليات يرفضن الختان بقطع البظر.

         ولغايات تحديد ما هو الجدير بالاحترام من ثقافةٍ ما، وما هو غير جدير بالاحترام، يجب التمييز بين الضرورات ذات القيمة الإنسانية اللازمة لتأسيس المجتمع والاندماج مع الآخرين من البشر والتي لا يمكن قبول أيّ عاداتٍ تمس بها، وبين السمات الخاصة بجماعةٍ معيّنةٍ فقط ولا تتعارض مع الضرورات والتي تُعدّ في هذه الحالة تراثاً ثقافياً يجدر احترامه، فمن الضرورات على سبيل المثال كل ما هو متعلق بحقوق الإنسان، في هذا الإطار تكون الحرية الفردية والمساواة بين الجنسين مبدأين لا تقهرهما أيّ ممارسةٍ ثقافيةٍ ولا يقبلان أيّ مساومة، حتى لو ادّعت جماعة ما أنّهما لا يتفقان مع أعرافها الموروثة من الأسلاف، فالممارسات اليومية والعادات الأسرية والتراث الجمالي والعاطفي والثقافي لا تكون محترمةً إلّا إذا توافقت مع القانون المشترك الذي هو أساس تأقلُم الجميع.

         فما من حضارةٍ ولا ثقافةٍ تستطيع الإفلات من العقل النقدي، الذي عليه أن يُفرق بين ما يظهر كأنّه ثقافي ليسهّل فرض السيطرة والهيمنة على بعض أفراد الجماعة، وبين ما يمكن تقييمه حقيقةً على أنّه تراثٌ ثقافي، فختان البظر وقطع الأعضاء المنتصبة كعقوبة وتطليق المرأة من جانبٍ واحدٍ وبإرادةٍ منفردةٍ والسيطرة الذكورية على الإناث والأطفال بأشكالها المتعددة التي تظهر واضحةً على الخصوص بالمفهوم الذكوري لربّ العائلة، كلّها أمثلةٌ غير مقبولةٍ وغير جديرةٍ بالاحترام لأنّها تتنافى مع حقوق الإنسان ومبادئ الحرية والمساواة، حتى أنّه لا يجوز نعتها بالثقافية لأنّ هذا يؤدي إلى المجازفة بالإقرار بها وشرعنتها.

وهنا يُلاحظ أنّ هناك خلطٌ مُتعمّدٌ بين احترام العقائد واحترام أصحابها لغرض الدفع نحو النصّ على قانون يجرّم اتّهام المذاهب الدينية أو رموزها وكل ذلك يؤدي إلى قمع الحريات، فمنع عرض فيلم ” الإغواء الأخير للمسيح ” أو منع نشر كتاب ” الآيات الشيطانية ” أو حتى معاقبة التجديف أو ازدراء الأديان، كل هذا ينتهي إلى تحويل قناعةٍ خاصةٍ إلى قانونٍ مفروضٍ على الجميع. فالتفوّه بعباراتٍ استفزازيةٍ ومهينةٍ بحق قناعةٍ ما لا يجوز للقانون أن يُعاقب عليه، لأنّ القانون لا يعاقب على خطيئة نقص الرهافة واللياقة وإنّما هذا من واجب النظام الأخلاقي، على ألّا يصل هذا الهجاء أو السخرية إلى حدّ استهداف أشخاصٍ معيّنين أيّ يجب أن يبقى منحصراً باستهداف العقائد والأيديولوجيات كأفكار. فإذا فكّر بعض المتدينين في الإدانة القانونية لكل نقدٍ أو هجاءٍ يتصدى لمذهبهم، فإنّ بعض الشيوعيين سيكونون أيضاً مؤهلين لمنع كل نقضٍ أو هجاءٍ للشيوعية، لأنّه بذلك يتحول حق إنشاء القناعات بحريةٍ إلى واجب احترامها مهما حَوت من أفكار، وإذا سمحت الدول بمثل هذا فستكون قد رهنت أغلى ما عندها من ممتلكاتٍ وهو العقل الناقد الضروري لممارسة المواطنة المتنورة.

         3- تبنّي تعليم علماني:

         كما العلمانية ترتكز على حرية المعتقد والمساواة، فالمدرسة العلمانية أيضاً ترتكز عليهما، فهما يشكلان الضمانة الأبرز لتأسيس تعليمٍ يهمه تحرير القدرة على المحاكمة مستنداً في منهجه إلى مراجعٍ ثقافيةٍ متحررةٍ من السلطات الأيديولوجية المختلفة.

         وخلافاً للمجتمع المدني فإنّ المدرسة تجمع أشخاصاً قاصرين لا يتمتعون باستقلالية الفكر والعمل فلا يمكن تطبيق القواعد الصالحة في المجتمع المدني على التلاميذ في المدرسة، فالمدرسة تخاطب أناساً في طريق التكوين وتهدف إلى تربيتهم في جوٍّ من الحرية يقتضي الامتناع عن الإشارة إلى أيّ قناعاتٍ دينيةٍ أو سياسيةٍ كي لا تتحول المدرسة إلى حقلٍ مغلقٍ للمواجهات بين الكبار، وكي لا يُحتجز الأطفال ضمن اختلافاتهم التي فُرضت عليهم من قِبل عائلاتهم، لأنّه في اللحظة التي يُعطى فيها التلميذ وضع الشخص البالغ الراشد يُسجن في الواقع في شخصية الطفل المنتسب إلى عائلةٍ ما والناطق بقناعاتها التي حشتها في رأسه، فالأصل أنّه عندما يأتي الطفل إلى المدرسة يأتي إليها بصفته تلميذاً وليس بصفته ابن عائلةٍ معينة أو جماعةٍ. فالمدرسة لم توجد من أجل إعلاء شأن الخصوصيات وإنّما من أجل التعليم والتحرر، وبالتالي فإن إبقاء تبعيات التلاميذ بعيدةً عن الساحة المدرسية يجعل الحوار ممكناً بينهم في عالمٍ مشتركٍ.

وسنستكمل الحديث عن التعليم العلماني والمدرسة العامّة في الدولة العلمانية بمزيدٍ من التفصيل في مقالٍ لاحق… يتبع…

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

تعليق واحد

  1. سلسلة مقالات توعوية تتمتع بالجرءة على المجتمعات الشرق أوسطية، وترفع لها القبعة.
    لكن يمكن أن تتم صياغة مثل هذا المحتوى بالمحاورة مع الأطراف المعنيين، ففرض برنامج إصلاحي مكتوب وجاهز على مجتمع ما يعتبر بحد ذاته قمعاً للحريات؛ إذ كيف سيتم فرض برنامج معين لم أوافق عليه ولم أناقش فيه؟
    حتى في مجال الحرية والعلمانية يجب أن يتم التوافق بين مختلف المعنيين على تعريف ثابت لكل من المصطلحين وبعدها يتم الاتفاق على مرجعيات ملزمة ثم يتم الإلزام وفقا لما تم الاتفاق عليه وليس وفقا لتطلعات فئة واحدة.
    الحرية لا تكون ذات اتجاه واحد وإلا تحولت إلى تعسف، والتجربة الغربية فيها أخطاء ممكن أن نتلافاها في هذا المجال، والخطاب التوعوي يجب أن يتضمن الحياد التام والمطلق بعيدا عن الغايات المختبئة بين السطور.
    تحياتي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى