مقالات الأعضاء

تأصيل مفهوم الحريّة

لفهم الحرية يجب أن نفهم نقيضها أي العبودية، والتي بدأت منذ أن أصبح الإنسان قادرًا على إنتاج ما يزيد عن حاجته للبقاء على قيد الحياة، أي منذ اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوان وتطور أدوات الإنتاج قبل حوالي 8 آلاف سنة، حيث تطورت كثيرًا حياة البشر سواء إن كانوا بدوًا رحل أو مستقرين في قرى ومزارع أو مدن، وصار بإمكان من يملك القوة أن يستعبد الآخرين ويجبرهم على إعطائه قسمًا ممّا ينتجون، فيعيش عليه دون عمل، وهذا أول شكل من أشكال السلطة وهي مؤسسة القوة التي تحرس العبيد.

قال سقراط أنّ الفارق بين العبد والحرّ أنّ العبد يفضل الحياة على القتال، أي أنّه مع نشوء العبودية صار الأصل في الحرية هو القدرة على القتال وإجبار القوي على الحرب التي قد يخسر فيها حياته، أو تنتهي بموت :الآخر الذي لا يريد أن يصبح عبدًا … لذلك قال الشاعر أحمد شوقي في قصيدة دمشق

سلام من صبا بردى أرق    ودمعٌ لا يكفكف يا دمشق

ّوللحرية الحمراء بابً           بكلّ يد مضرجةٍ يدق

فالحرية هي نتاج الحرب، ولا يحرسها سوى القدرة على شنها ، والاستعداد للموت مفضلا له عن حياة العبودية : كما قال أبو ريشة :

لا تطيق السادة الأحرار أطواق الحديد     إنّ عيش الذل والإرهاق أولى بالعبيد

لا يمكن أن تأتي الحرية من عقل التجارة وحسابات الربح والخسارة، بل تأتي من القناعة المطلقة برفض العبودية والذل، والاستعداد للحرب والموت في حال لم تتوفر . وهكذا فالثورات هي بوابة الحرية التي تنتهي بتحطيم الاستبداد والطغيان والاحتلال، والتمتع بالاستقلال والسيادة والكرامة، فالدول المحتَلة لا يمكن لأفرادها أن يدّعوا الحرية طالما أنّ السلطة ذاتها بيد المحتل الأجنبي، بل فقط الدول المستقلة هي التي يمكنها أن تمنح الحرية لمواطنيها عندما تتكون من تعاقدهم الحر على إنتاج سلطةٍ تمثلهم وتحرس حقوقهم وحرياتهم.

لكن الحرية ليست مطلقة، فهي محدودةٌ بحرية الآخر الذي نشاركه العيش الاجتماعي الاقتصادي السياسي، ولكي يتم عقد تسوية بين حرية الفرد والإكراهات الجمعية المفروضة عليه ، أصبح النظام الحقوقي المحروس من سلطة القانون المطبق من قبل القضاة النزيهين هو الضامن الوحيد للحرية وراسم حدودها، حيث تنتهي حريتي عندما تبدأ حرية الآخرين. فلكي نبقى أحرارًا وبذات الوقت نعيش مع الآخر الحر أيضًا، كان من اللازم وجود حدود قانونية للحريات التي لا يمكن أن تكون مطلقة في المجتمع، فلكي تكون حرًّا بشكل مطلق يجب عليك أن تعيش وحيدًا، وهكذا تختار التخلي عن جزء من حريتك مقابل المنافع التي يقدمها لك العيش ضمن مجتمعٍ متكافلٍ متضامنٍ يقدم خدماتٍ لا يمكن تحصيلها من دون تعاون مجتمعي اقتصادي سياسي … من أمن وخدمات وإنتاج متخصص … فوظائف مؤسسات المجتمع تعوّض عن الجزء المفقود من الحرية وتغطي عليه بل قد تفوقه في خيرها،  فالحرية والمساواة هما جناحان أساسيان للحقوق والأخلاق، والهدف الأول هو الخير العام والخاص في أي منظومة قيمية أخلاقية، وهذا التوازن المتناقض بين المساوة والحرية هو الذي يحرسه النظام الحقوقي القضائي للمجتمع الذي يتطور لحالة أرقى تسمى الدولة.

في كلّ وقتٍ تغيب سلطة القانون والعدالة تنطلق الوحشية التي تحتكم للقوة فيأكل القوي الضعيف، وفي كلّ وقتٍ تخرج السلطة عن دورها المجتمعي وتتحول لوحشٍ وسلطةٍ غاشمةٍ تأكل حريات المواطنين، وتستخدم أدواتها في المراقبة والمعاقبة والدفاع لقمع واستعباد المواطن، عندها تعود بنا لعصر العبودية … وهو ما مثلته سلطة آل الأسد وشبيحتهم

وهكذا فثورة الحرية في سوريا هي ثورة على نظم الطغيان، لكن ليست ثورةً ضد الدولة والعدالة والقانون بل من أجلهم، لأنّ الحرية من دونهم تعني العودة للوحشية وحرب الجميع ضد الجميع وانفراط العقد الاجتماعي، وهذا ما عبرت عنه المعارضة ومناطق سيطرتها، التي انتهت بالخضوع لسلطة الاحتلال الأجنبي في النهاية.

فالثورة السورية بما أطلقته من وحشية انتهت بتسليم السلطة للاحتلال الأجنبي المتوحش، مشكلة سوريا هي العيش بين تصورين متناقضين للمجتمع ( استعباد متوحش، وإرهاب وحشي ) فالحرب الدائرة في سوريا ناتجٌ عن ثقافة تغيب فيها عملية الوعي بمفهوم الدولة ومفهوم الحرية ومفهوم العدالة، إنّها حرب تعبر عن عشرة قرون من التخلف والانحطاط العقلي والفكري ودمار الوعي السياسي .. 

كل ما نعمل عليه هو إعادة إنتاج الوعي بهذه المفاهيم وإدراك أهميتها في بناء التشكيلات الاجتماعية السياسية …. وهو ما دعيتكم للعمل والمشاركة فيه في الحركة المدنية السورية ….

   يتبع …

الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
بقلم الدكتور كمال اللبواني

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى