مقال رأي

دور الدين في الصراع السياسي في سوريا

 

كانت المملكة العربية السورية أول دولةٍ مستقلةٍ تأسست في سوريا الطبيعية بعد زوال الدولة العثمانية ونهاية الحرب العالمية الأولى؛ شملت حدودها النظرية الولايات السورية العثمانية، أي بلاد الشام حاليًا. وترأس المملكة فيصل بن الحسين كأميرٍ عليها عام 1918م، وتشكلت هيئة تأسيسية – تشريعية عُرفت باسم “المؤتمر السوري العام”، الذي أقيم بدعوةٍ من الأحزاب السياسية السورية في تلك الفترة، وهي ”حزب العربية الفتاة” و”حزب الاتحاد السوري” و”الحزب الوطني” و”حزب الاستقلال” و”حزب التغيير”، وذلك بغرض تمثيل البلاد والتحدث باسمها أمام اللجنة الدولية التي شُكلت بعد انسحاب القوات العثمانية.

وتشكل الدستور الذي عُرف باسم “القانون الأساسي” الذي نصّ على أنّ البلاد ملكيةٌ دستوريةٌ مدنية، لا مركزية الإدارة، وتكفل الحريات السياسية والاقتصادية، وحقوق الطوائف الدينية، وتساوي بين المواطنين. ورغم أن المؤتمر السوري العام حدد حدود المملكة السورية، بما يشمل جبال طوروس وفلسطين وسوريا الحالية والأردن، كان لاتفاقية ”سايكس- بيكو“ بين بريطانيا وفرنسا رأيًا آخر، إذ قسّمت سوريا الطبيعية كمناطقٍ استعماريةٍ فيما بينها، ولم يعترف الحلفاء بالكيان الجديد، ورغم أن اتفاق فيصل كليمنصو قد قبل مبدأ الانتداب الفرنسي، إلا أن التطورات اللاحقة ونظرة فرنسا إلى فيصل بوصفه “حليف بريطانيا” دفعت إلى نفيه وحل المملكة عام 1920م، وذلك بعد ثلاثة أيام من معركة ميسلون واحتلال العاصمة دمشق.

واستُخدمت في هذه الفترة الطوائف السورية لتثبيت الانتداب الفرنسي، وتم ذلك من خلال تمييز في بنية الجيش الناشئ (قوات الشرق الخاصة) الذي بُني بشكلٍ أساسيٍ من الأقليات الدينية والعرقية، ومن خلال تقسيم الدولة إلى ثلاث دولٍ على أساسٍ طائفي؛ دولة للعلويين، ودولة للدروز، والباقي دولة لبقية السكان. ونلاحظ ممّا سبق كيف استخدم الحلفاء الدين ليلعب دورًا رئيسيًا في الصراع السياسي، وباستثناء الفترة الليبرالية الممتدة بين 1946-1958 وفترة الوحدة مع مصر 1958-1961 فقد ظل الدين عنصرًا رئيسيًا في هذا الصراع، وكان أساسًا للسيطرة على الجيش مع استيلاء الضباط البعثيين الذين تقودهم اللجنة العسكرية التي شُكّلت أساسًا من العلويين خلال عقدٍ من الزمن 1961-1970، حيث نُفّذت عمليات تسريحٍ واسعة النطاق بغرض تعزيز النفوذ العلوي في الجيش. وفي عهد الأسد الأب ظهر ما يمكن تسميته بعلونة السلطة أو العلونة السياسية، حيث استُخدم العصب الطائفي للأقلية العلوية لتثبيت سلطة الأسد عبر استيلاءٍ مُمنهجٍ على مفاصل الدولة الأساسية، وعلى الرغم من أن دستور الدولة الذي أُقر عام 1950 كان دستورًا علمانيًا وغير تمييزي باستثناء مادتين منه هما: “دين رئيس الجمهورية الإسلام”، و”الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع”، فإن ذلك لم يحل دون خلق سياسياتٍ تمييزيةٍ كجزءٍ من الصراع على السلطة تمنح امتيازات لأبناء الطائفة على حساب المكونات السكانية الأخرى لتسهيل السيطرة على مفاصل الدولة.

وعندما أراد حافظ الأسد إحكام سيطرته قرر تعديل الدستور عام 1973 ليتسنى له تجميع دوائر القرار في الدولة بين يديه، وقد واجه الأسد عقبتين في هذا المسعى؛ أولهما مشكلة الشرعية، فمن جهةٍ هو جاء نتيجة انقلابٍ عسكري، ومن جهةٍ ثانيةٍ هو ابن أقليةٍ دينيةٍ يُنظر إليها من عموم المسلمين (سُنّة وشيعة) على أنّها طائفةٌ منشقةٌ تمثل ديانةً مستقلة، الأمر الذي يجعل المادة الدستورية التي تحدد دين رئيس الدولة بالإسلام عقبة أمام تكريس أي شرعية له. وهكذا تم إلغاء هذه المادة من مسودة دستوره الجديد الذي خطط له، وقد اتّخذ الإخوان المسلمون من غياب هذه المادة بابًا للطعن في شرعيته، فتسبب ذلك بتأجيجٍ طائفيٍ حادٍ انتهى بأحداث الثمانينيات المروعة، والسماح للأسد باتباع سياساتٍ عامةٍ تهدف بشكلٍ أساسيٍ إلى التحكم بالمؤسسات الدينية لتثبيت حكمه، ورفع الجدران بين الطوائف عبر تخويفها من بعضها وبشكلٍ خاصٍ من الأكثرية السُنيّة، وتكريس فكرة أن بقاءه هو ضمانة بقائها.

ورث الأسد الابن وضعًا مستقرًا لجهة الطوائف الدينية، لكنه واجه مأزق الشرعية والتوريث، وبدلًا من المضي في الإصلاح لخلق شرعيةٍ جديدةٍ لتثبيت حكمه؛ أحدث نقلةً غير مسبوقةٍ في تاريخ الدولة بربط السياسات العامة خصوصًا المتعلقة بالأديان بحاجات السياسة الخارجية، وتعزيز الدور السياسي الجديد للطوائف الدينية لتضمحل علمانية الدولة التي كانت شكليةً أساسًا، فعزز دور التيارات الدينية داخل البلاد كالقبيسيات ومهد الطريق لدخول لاعبٍ طائفيٍ جديدٍ من خارج البلاد هو الشيعة ممثلة النفوذ الإيراني.

اندلعت الثورة عام 2011 في ظل قبضةٍ أمنيةٍ غير عادية، وإحكام السيطرة على المؤسسات الدينية، الأمر الذي سمح أن يكون خروجها شكلًا من أشكال التمرد على المؤسسة الدينية ذاتها والتي ثبت في سنوات الثورة أنها بالفعل تحت السيطرة التامة للنظام، وخلال السنوات الأولى من الثورة عمل نظام الأسد على تحريك العصبية الطائفية إلى حدها الأقصى، وعلى تعزيز مخاوف الأقليات في الوقت نفسه، فحرص من جهةٍ على استفزاز الشعور الديني عندما أجبر المعتقلين والمتظاهرين على السجود لصور بشار الأسد، ومن جهةٍ ثانيةٍ أطلق مئات الجهاديين السلفيين من السجون، ومن جهةٍ ثالثةٍ بدأ بتعزيز الخطاب الطائفي إلى أقصى الحدود من خلال مذابح تطهيرٍ طائفيةٍ ممنهجةٍ (كان معظمها في الفترة الأولى بالسلاح الأبيض)، وتعزيز الدور الإيراني والميليشيات الشيعية الأجنبية في قمع الثورة، ليغدو الدين مرةً أخرى عاملًا فاعلًا في تأجيج الصراع. كماعملت الطائفة العلوية إلى جانب النظام للدفاع عن مكتسباتها من جهة، ومخاوفها من الانتقام بسبب دورها في القمع الذي قام به النظام في أحداث الثمانينيات من جهةٍ أخرى، وغرقت في وحل الحرب، وتعمّد النظام توريطها في مجازر طائفية وحشية (مثل مجزرة الحولة، ومجزرة القبير عام2012)، وبذلك لم يترك لها خيارًا سوى الدفاع عنه والتمترس خلفه.

وقد انحازت معظم الأقليات الدينية إلى نظام الأسد لعواملٍ عدة، أهمها سيطرة النظام على مؤسساتها الدينية، وخوفها من مصيرٍ مجهولٍ إذا ما التحقت بالثورة في مواجهة نظامٍ قمعيٍ لا يبدي أية رحمة ضد خصومه، ومصيرٍ مجهولٍ آخر يحولهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية، في حال سقوط النظام ووصول الحركات الإسلامية، التي انتشرت على نحوٍ واسعٍ خلال الثورة، للحكم وفرض تطبيق الشريعة الإسلامية.

إن استمرار استعمال الدين في الصراع السياسي سيؤدي لا محالة إلى انعدام أي أملٍ في الاستقرار أوالتحرر من الدكتاتورية، فمن جهة في حال بقاء نظام الأسد الذي أصبح أسيرًا لسياسات طهران؛ سيستنسخ غالبًا النموذج العراقي، نموذج المالكي المفضل للإيرانيين، وهو أمرٌ ينذر بنتائجٍ وخيمةٍ تعزز الاضطراب في سوريا ويهيئ مناخًا لأكثر الحركات عنفًا وتطرفًا والتي قد تتجاوز تنظيم الدولة الإسلامية. ومن جهةٍ أخرى إذا كسبت المعارضة؛ فسيكون للتنظيمات الإسلامية التي تطمح جميعها إلى قيام دولةٍ إسلاميةٍ دروًا أساسيًا في في تحديد شكل الحكم في البلاد، ومن غير المضمون في هذه الحال أن تكون ثمة توافقاتٍ تحظى برضى الأغلبية السنية كما تحظى برضى الأقليات، كما من غير المضمون الحيلولة دون ظهور سياساتٍ تمييزيةٍ معكوسة، كتلك التي مارسها نظام الأسد ضد الأكثرية لتثبيت حكمه.

لذلك يجب التعامل مع موضوع الدين وعلاقته بالدولة بكثيرٍ من الحذر والإيجابية. إذ يجب تذكر أن الدين لن يموت، ولا توجد صيغة واحدة للعلاقة بين الدين والدولة الحديثة، ويجب أن تقود الاستفادة من تاريخ العلاقة بينهما في سوريا إلى تأسيس علاقة انسجام بين الدولة والدين، يُحيّد الدين فيها عن أن يكون جزءًا من أدوات الصراع، وهو أمر سيتطلب مقاربةً جديدةً تحت قبة الدولة، بحيث تُحقق ضمانةً فعليةً لمصالح جميع الأديان والطوائف، وتحقق استقرارًا اجتماعيًا سياسيًا دائمًا.

مارغريت (ناشطة مدنيّة مستقلّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى