مقالات الأعضاء

العلمانية (10): تطوّر علاقة الدولة بالدين عبر التاريخ في أوروبا ذات الأغلبية المسيحية (2)

سنة 313 بعد الميلاد قرر القيصر قسطنطين الأوّل الاعتراف بالمسيحية كدينٍ رسميٍ في الإمبراطورية الرومانية بموجب مرسوم ميلان، وهذه كانت نقطة التحوّل الرئيسية في موقف الإمبراطور الروماني من الدين المسيحي، وهذا ما فتح الباب للكنيسة الكاثوليكية لتصبح دولةً داخل دولةٍ، حيث نقل العاصمة إلى القسطنطينية وجعلها مدينةً منذورةً لمريم العذراء ثم دعا إلى مجمع نيقية سنة 325 م، لكن قسطنطين لم يتحوّل إلى المسيحية إلّا على فراش الموت، وبهذا تكون الدولة الوثنية هي من بدأت برعاية الكنيسة وإدخالها في إطار الحكم.

ولكن على الرغم من اعتراف قسطنطين الأوّل بالمسيحية إلّا أنّه حاول إيجاد توازن بين الوثنية كدينٍ قديمٍ والمسيحية كدينٍ جديدٍ، حيث احتفظ لنفسه بالامتيازات الدينية السابقة للإمبراطور، كما احتوى بلاطه العديد من رجال الدين المسيحيين إلى جانب الكهنة والفلاسفة الوثنيين، وكذلك قسّم الوظائف الكبرى بين المسيحيين والوثنيين، واحتوت النقود التي أمر بصكّها رموزاً تدلّ على المسيحية والوثنية معاً. وما ساعد على التوافق السريع بين الحكم الإمبراطوري والمسيحية هو أنّ المسيحية في بداية عهدها لم تكن تبالي بقضايا الحكم والسياسة؛ حيث كان الفكر اللاهوتي في ذلك الوقت يدعو إلى طاعة الإمبراطور ويعتبر ذلك من صميم طاعة الله، ومن هنا برزت مقولة  ” اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ” المنسوبة أحياناً للمسيح ذاته وأحياناً أخرى للقديس بولس، فرغم أنّ المسيحية رفضت تأليه الحاكم إلّا أنّها نصّبت محل الحاكم الإله حاكماً من نوعٍ آخرٍ هو الحاكم الممثل للإله والمحرّم عصيانه، فالكنسية كانت تريد نوعاً من المصالحة مع السلطة الزمنية فتركت لها ميداناً تفعل فيه ما تشاء مقابل أن تترك لها السلطة حرية ممارسة الشعائر الدينية والتبشير بها، فبقيت بذلك سلطة الإمبراطور أعلى من سلطة البابا خلال هذه المرحلة الزمنية.

        فلم تقوَ الكنيسة على الوقوف بوجه الإمبراطورية والتصدي لها بقوة وإنّما فعلت ذلك بكل مرونةٍ وطول نفَس، وهذا ما جسّدته فترة البابوية الغريغورية بدءاً من البابا غريغوري الأول (590 – 604) م؛ حيث كان أقصى ما يطلبه هذا البابا هو أن يجعل الإمبراطور جنده في خدمة البابوية وألّا يتعالى على الكنيسة، فهو لم يسعَ للحصول على الصلاحيات الزمنية للإمبراطور. واستمر هذا الأمر حتى تولي البابا غريغوري السابع منصب البابوية سنة 1073م الذي دخل في نزاعاتٍ متتاليةٍ مع الأباطرة، وأبرزها نزاعه مع الإمبراطور هنري الرابع الذي أُطلق عليه ” النزاع العظيم ” فما إن تولى غريغوري السابع منصبه حتى أعطى حق تنصيب الحكام الزمنيين للأساقفة وهو ما لم يرُق لهنري الرابع ممّا دفعه إلى محاولة خلع غريغوري، الذي ردّ بحرمان هنري من رحمة الكنيسة وأيد رودولف أمير سوابيا في مطالبته بعرش هنري، وهذا ما أدى بهنري للتراجع عن موقفه المعاند وسار إلى حيث يوجد البابا غريغوري طالباً منه الصفح والمسامحة الشيء الذي عرّضه إلى إذلالٍ فظيع، وهذه هي الواقعة التي تُعد اللحظة التأسيسية لما اصطُلح عليه بـ ” السموّ البابوي”.

ولم يكتفِ البابا غريغوري بكل ذلك بل شرّع العقيدة الثيوقراطية التي تحدد نفوذ البابا والكنيسة، ففي الفصل التاسع منها تنص على أنّ البابا هو الإنسان الوحيد الذي يكون للأمراء تقبيل قدميه، وله أن يطيح بالأباطرة عن عروشهم، وأنّه لا يمكن لأيّ إنسانٍ أن يُقَوّم الكلمة التي تصدر عن البابا في حين يكون للبابا أن ينظر في كل ما يصدر عن البشر، وكذلك أنّ البابا لا يمكن أن يكون موضع محاسبةٍ من أيٍ كان.

وما إن حصلت البابوية على مرادها ودان لها الحكم الزمني حتى شرع الباباوات بالسير على خطى غريغوري السابع طامحين إلى المزيد من السموّ والهيمنة فأمسى البابا نائباً ليسوع المسيح نفسه على الأرض، وهذا ما جلب الكثير من الحروب الأهلية للقارة الأوروبية، حيث أضحت البابوية بؤرة السياسة الدولية في أوروبا وخارجها وتغلغلت في الحياة المجتمعية والاقتصادية، فجميع الحكام الزمنيين يتلقّون مناصبهم من الرب بوساطة البابا والبابا هو ظلّ الرب في الأرض، ذلك أنّ يسوع قلّده كلا السيفين الزمني والروحي، ويحتفظ البابا بالسيف الزمني ولكنه يقلّده للملوك والأمراء شريطة استخدامه لخدمة الكنيسة وتحت وصايتها، أي بمعنى آخر أن تخضع الدولة للنظام الكنسي في كل الأمور وفي كل الأوقات. 

خلال هذه المرحلة شرع رجال الدين بالاهتمام بالدنيا وبشغل المناصب الحياتية وامتلاك الأراضي ومنافسة رجال السياسة في جميع الأنشطة الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فلم يكتفوا بالوعظ والإرشاد وإنّما تجاوزوا ذلك نحو التدخل بالتعليم وبناء الجامعات وتسييرها وتأطير المجتمعات وتنظيم شؤونها كما تدخلوا بإنتاج الثروة وتوزيعها، والذي ساعد على هذا السموّ البابوي وتنامي سلطة الكنيسة، الحروب التي خاضتها الإمبراطورية الرومانية وأخفقت فيها وأبرزها الحروب ضدّ العرب والمسلمين  وضدّ قبائل القوت الشرقيين الذين سلبوا الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية. 

فامتلكت بذلك الكنيسة أدوات الدولة وتحوّلت إلى ثقافةٍ مجتمعيةٍ تشكّل الوعي الجمعي للمسيحيين وتخلق ثقافةً جديدةً استغلّتها فيما بعد في حروبها الخارجية ولا سيّما ضدّ المسلمين، خصوصاً بعد دورها في توحيد أوروبا مرتين؛ مرة بعد أن توّجت شارلمان سنة 800 م وأسندت إليه توحيد الولايات والمقاطعات، ومرة عندما أنهت الصراعات الداخلية بين الأمراء ووجهت حربها نحو الخارج المسلم تحديداً سنة 1590م بإعلان البابا أربان الثاني الحروب الصليبية.

        في منتصف القرن الثاني عشر نشأ تنظيم سياسي واجتماعي جديد في شمال إيطاليا ظهرت فيه رغبة المجتمع بالتحوّل إلى الإقطاعية؛ فقُسمت أرض البلاد بين المدن ولم يبقَ أيّ رجلٍ نبيلٍ لا يعترف بسلطة مدينته، وتحوّلت الملكيات الوراثية في المدن إلى جمهورياتٍ مستقلةٍ، حيث حكم كل جمهورية قناصل لا حكّام، يتغيرون كل عامٍ تقريباً وذلك لحرص مجتمعات تلك المدن على تجنب شهوة هؤلاء للسلطة ولغاية صيانة حرية الشعب، وبقيت تلك المدن رغم التطورات التي طرأت عليها تُعتبر تابعةً للإمبراطورية الرومانية إلّا أنّها شكلت خطراً محدقاً بسلطة الإمبراطور؛ حيث رفض سكان هذه المدن أيٍ من الأمراء الذين كان يتم تعيينهم لكونهم من خارجها، وهذا ما دفع الإمبراطور فريدريك الثاني إلى شنّ حربٍ على المدن الإيطالية لإخضاعها عام 1237 م، لكن بعد فترةٍ وجيزةٍ استطاعت المدن من جديد أن تنتزع استقلالها من الهيمنة الإمبراطورية عام 1327 م، وهو ما انعكس بشكلٍ إيجابيٍ على منظومة المُثل والقيم في الإمبراطورية؛ إذ انتعش مطلب الحرية وأصبحت شعاراً للكثير من المدن التي نمت فيها فكرة الاستقلال. ومن الجدير بالملاحظة أنّه طيلة مدة الصراع بين المدن الإيطالية والإمبراطور كانت البابوية الحليف الرئيسي لهذه المدن، حيث كان أول حليفٍ لهذه المدن البابا ألكسندر الثالث بعد أن رفض الإمبراطور تأييد توليه البابوية عام 1159 م.

وعلى الرغم من مساعدة البابوية للمدن الإيطالية في حروبها للحصول على الاستقلال إلّا أنّ حقيقة هذه المساعدة تكَشّفت بعد انتصار المدن على الإمبراطورية؛ إذ طمح الباباوات إلى حكم مملكة إيطاليا بأنفسهم ممّا دفع ملوكها المتعاقبين إلى الدخول مع البابوية في سلسلةٍ من الصراعات انتهت بانتصار البابوية، بعدها تابع الباباوات طموحاتهم الزمنية وسيطروا على كامل التراب الإيطالي ودخلوا بحربٍ مع الإمبراطورية منتزعين من سيطرتها العديد من المناطق مثل بولونيا ورومانيا، وتمّ الإعلان بشكل واضح عن أنّ السلطة الروحية تملك سلطة إنشاء السلطة الزمنية. لكن لم تصمت المدن الإيطالية إزاء هذه الاعتداءات وسارعت إلى تبني معارضة قوية لمضامينها ببناء أفكارٍ وأيديولوجياتٍ لهدم المسوّغات البابوية الهادفة إلى تمَلّك السلطة الزمنية، ومن أهم هذه الأفكار مطالبة الإمبراطور بإصلاح ميزان البابا؛ لأنّ الكنيسة اغتصبت السلطة الزمنية والحق الإمبراطوري.

ومن هذه اللحظة التاريخية بدأت تبرز رؤيةٌ جديدةٌ للعلاقة بين الديني والزمني التي شكّلت الأساس الذي تستند إليه فكرة العلمانية في يومنا هذا، وأسهمت في تشكّلها العديد من العوامل منها عوامل فكرية وعوامل سياسية وعلمية واقتصادية.   

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى