مقالات الأعضاء

مفهوم الحرية (2): عندما تبدأ حرية الآخرين

تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين، جملةٌ نسمعها كثيرًا ونردّدها جميعنا ولها وقعٌ ورنينٌ ملفتٌ للانتباه وتتميز بهالةٍ اكتسبت نوعًا من القداسة اللاشعورية الملزمة، ويشعر البعض بمدى أهميتها الكبيرة عندما تُقال في أيّ سياق، ولكن على أيّ حال، نستطيع إدراجها ضمن فئة العبارات الدارجة بين الناس، والتي يردّدها البعض كالببغاوات ضاربين بعرض الحائط ما قد تخلفه عبارةٌ مثل هذه إذا قيلت في غير موضعها، أو عندما يُساء استخدامها بقصدٍ أو بدون قصد، فلنقم بتحليل هذه العبارة لنرى ما هي وماذا تعني بالضبط.

أول من قال بها هو الفيلسوف والقاضي الفرنسي شارل لوي دي سيكوندا المُلقب بـ مونتيسكيو (1689-1755) وذكرها في كتابه (( روح الشرائع ))، لسنا هنا في صدد مناقشة مونتيسكيو وكتابه ولكن سوف نحلل هذه الجملة من ضمن سياق واقعنا، وما يجب أن تعني؟ وكيف نتفادى تبعات استخدامها في غير موقعها.

مثلها مثل أيّ شيئٍ مرتبطٍ بالحرية، أبدع الكثيرون في استخدام هذه العبارة على هواهم وضمن نواياهم الخاصة، كما شرحنا في المقال السابق، وتم استخدامها كسلاحٍ موجهٍ مضادٍ ومعادٍ للحريات وليس كضامنٍ لها، بمعنى لو حلّلنا هذه العبارة نراها تقول: عندما تبدأ حرية الآخرين، وهنا اللغط الأول بذكر كلمة تبدأ  ونرى أنّها مطلقةً وُيفهم منها أنّ حرية أيّ فردٍ موقوفةٌ ورهن حرية الآخرين، وبوضوحٍ نرى أنّنا أمام سيناريو قمعيٍ تقليديٍ ومحبّبٍ لدى الأنظمة القمعيّة والفاشيّة، وهو طمس هوية الفرد في سبيل الجماعة المغيّبة والمضطهدة والعاجزة عن اتخاذ قرارها بنفسها وإسكات وتقييد حريات الأفراد فداء للصالح العام، وذلك يُعتبر من القواعد البديهية في (علم ) القمع والاستبداد، وذلك لأنّ السلطات ومنذ الأزل على درايةٍ بأنّ الجموع الحاشدة دائمًا في صفهم وتحت تصرفهم، ولا يوجد شيئ يُعكر صفو هذا الجو الدكتاتوري الرائع سوى أفرادٍ متنورين ومدركين للواقع المزري، ويحاولون قصارى جهدهم إحداث تغييرٍ في مجتمعاتهم، ولكن كما هي العادة يتفاجؤون بحائطٍ ضخمٍ يصدّ كافة آمالهم، وهذا الحائط مشيدٌ على مجموعةٍ من البديهيات والمسلّمات التي تبنّاها المجتمع، ليس لأنّه مقتنعٌ بها ولكنها فُرضت عليه إجباريًا على فتراتٍ متتابعةٍ حتى اعتقد الجميع أنّها من أسس المجتمع السليم، ويكاد لا يخفى على أحدٍ أنّه بعد تشويه معنى الحرية المتعمد من قِبل الأنظمة القمعيّة أصبح لها معنى مغايرٍ تمامًا ولم يعد المجتمع مدركًا لما يُملى عليه، ولا يستطيع التفريق بين المصطلحات، وتخلى عن المحاكمة العقلية المنطقية لما يجري من حوله، ولكي يُريح نفسه من عناء تفسير وضعه المزري، ولخوفه من عواقب المطالبة بحقوقه البسيطة ( لو كان مدركًا لها ) يلجأ الجميع لاستخدام ذخيرته من الجُمل التي يستعلمها كوسيلةٍ دفاعيّةٍ للحيد عن جلاديه، وللحفاظ على مجموعة القيم والعادات البالية سواء المتعلق منها بالنظام الحاكم أو بقواعدٍ دينيةٍ متشددةٍ أو عرفيّةٍ باليةٍ، مثل: القناعة كنزٌ لا يفنى – قضاء وقدر – نحن شعبٌ لا يستحق الحرية – اللي بيجي من الله ما أحلاه – وجملتنا عن حرية الآخرين وغير ذلك الكثير والكثير.

ولذلك إذا اضطررنا وشعرنا بوجوب استخدامها فعلينا تصحيح العبارة بحيث نضمن أن استعمالها سيكون في سبيل الحرية وضمانها وليس إساءة استخدامها، و يجب علينا أن نستبدل كلمة تبدأ بـ تنتهك فهنا كلمة الانتهاك في مضمونها ومعناها المباشر تُشير إلى حدوث شيئٍ جللٍ أو مؤذٍ قد يتضمن انتهاكًا لحرمة الأشخاص الجسدية الخاصة، ولا يعطي المجال للتفسيرات العريضة والواسعة المرتبطة بأهواء من شاء وأحب.

وماذا عن الشطر الأول من الجملة : تنتهي حريتك، لماذا تنتهي؟ لِمَ نقمع أنفسنا وغيرنا باستخدام كلمةٍ كإنهاء؟ من أعطانا الحق بالنهي والسماح؟ ومن سلطنا على حقوق وحريات الناس؟

الحرية معنى ساميٌ لا يجزأ ولا ينتهي، وبنفس الوقت ومراعاةً للظروف المحيطة نستطيع استخدام الحرية بطريقةٍ أخرى أو في أقصى الظروف نوقفها، ومعنى الإيقاف ليس مطلقًا طبعًا، فالإيقاف يعني الاستمرار لاحقًا وليس الإنهاء.

وبناءً على كل ما سبق يتبين لنا أن التصدّح بجملةٍ كهذه قد يسبب كوارثًا على صعيد الحريات الشخصية ولنتفادى ذلك نستطيع إعادة صياغة بعض كلماتها لتلطيفها وجعلها أكثر مرونة، فقد تصبح:

تتوقف حريتك عند انتهاك حقوق الآخرين

كما نرى هناك فرقٌ شاسعٌ بين الجملتين، وطبعًا الأهم والأفضل هو ابتعادنا عن المفاهيم والمصطلحات المعلّبة والتي تحدّ من نطاق حرياتنا وحقوقنا، عدونا الأول هو مجموعة المفاهيم والقيم التي زرعتها فينا الأنظمة الاستبدادية والعقول الأبوية الدوغمائية وعادات المجتمع البالية ورجال الدين عبيد السلطان والجاه.

فلنتجنب تكرار ما يُملى علينا وترديد ما يُهمس في أذاننا منذ ولادتنا وحتى فنائنا في المعتقلات و شوارع مدننا وأرصفة مهجرنا ومخيمات نزوحنا.

الخلود لحريتنا وثورتنا.

الحركة المدنية السوريّة | اللجنة الثقافيّة
آرام قبّاني (ناشط حقوقي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى