مقالات الأعضاء

العلمانية (7): مبررات الأخذ بالعلمانية (الجزء الأول) حول خطر الدولة الدينية (2)

كما تشكّل الدولة الدينية خطرًا على مرفق العدالة بشقيه النظام القانوني والمؤسسة القضائية. فمن حيث النظام القانوني، إنّ تبنّي الكتب المقدسة كمصدرٍ أساسيٍ للتشريع سيؤدي أولًا إلى ضياع استقرار التشريع؛ حيث لم يكتفِ رجال الدين باعتماد المفاهيم الكليّة الواردة في هذه الكتب وإنّما انكبّوا عليها تفسيرًا ودراسةً ليصبح هناك عددًا كبيرًا جدًا من كتب التفسير وعددًا أكبر من كتب الفقه التي حاولت بقراءتها لهذه التفاسير وبتتبّعها لما نُقل عن الأنبياء وتلامذتهم ومن عاشروهم لحقبةٍ من الزمن، ممّا لا يمكن بالمعايير العلمية التأكّد من صحة نقله، استخراج قوانينٍ إلهيةٍ تغطي نشاطات الدولة ونشاطات الأفراد في المسائل القديمة والحديثة، في المسائل التي عرفتها العصور القديمة والتي لم تعرفها قط، فظهرت قوانينٌ متعارضةٌ بتعارض التفسيرات والمفسرين وبتعارض كتب الفقه والفقهاء، وإن اجتمع هؤلاء كلّهم على طاولةٍ واحدةٍ للاتفاق على قانونٍ واحدٍ ما اتفقوا؛ لأنّ ما يراه هذا حلالًا يراه ذاك حرامًا ولا مجال للتسوية والتنازل في القوانين المقدسة أيّ في الحلال والحرام، وهذا يؤدي إلى كثرة تعديل التشريعات فكل مجلسٍ تشريعي أو حاكمٍ سيبدأ مباشرةً بعد استلامه دفّة الحكم بتعديل القوانين وفق المذهب أو الفقيه الذي يتبعه. ثانيًا يؤدي تبنّي الكتب المقدسة كمصدرٍ أساسيٍ للتشريع إلى تخلّف التشريع عن العصر؛ فالسلطات الدينية تكفّر أيّ فقيهٍ أو رجل قانون يحاول إعادة تفسير الكتب المقدسة بما يتفق مع العصر وإعادة استباط الأحكام منها لمواكبة تطوّر النظام القانوني والإنساني والأخلاقي العالمي، فمثلًا في العالم الإسلامي هناك أربعة مذاهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي ولا ترى أيّ قانونٍ في الدول الإسلامية يخرج عن هؤلاء الأربعة الكبار فلم يعد هناك من يجتهد، بل أرهق الباحثون عقولهم بالمقارنة بين اختلافات هؤلاء الأربعة فترى الكتب غارقةً بما قاله المالكي وذكره الشافعي واستحسنه أبو حنيفة وكرهه ابن حنبل، وكأنّ كلامهم أصبح قرآنًا! وعدم استقرار التشريع وكثرة إلغاء وتعديل القوانين ستؤدي حتمًا إلى عدم استقرار الأحكام القضائية فتتفاوت الأحكام رغم وحدة ملابسات وظروف المنازعات، وكذلك تخلّف التشريع عن العصر سيخلق شعورًا بالمظلومية لدى المواطنين لكون أحكامه لا تواكب التطوّر العالمي في المبادئ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية والأخلاقية، وهذا كلّه يؤدي إلى فقدان الناس الثقة بعدالة النظامين القانوني والقضائي.

والقول بأنّ الدولة الدينية قد تكون مدخلًا إلى التسامح الديني هو ليس إلّا جهلًا بالحقائق، فطبيعة الدولة الدينية تتناقض مع مفهوم التسامح الديني؛ لأنّ المؤمن بدين معيّن يرى دينه حقًا مطلقًا ويرى المخالفين لدينه دومًا على باطل، وتراه يسعى دومًا إلى استمالتهم إلى دينه لأنّ ذلك واجبًا مقدسًا عليه، فإن لم يستجيبوا له فإنّ قهرهم على اعتناق عقيدته لهو عملٌ مقدّسٌ. وما يُثبت ذلك أنّ التوراة ترى اليهود شعب الله المختار، والإنجيل حافل بلوم اليهود وتوبيخهم، والقرآن صريح في اتهام من يزعمون أنّ المسيح ابن الله وأنّ الله ثالث ثلاثة بالكفر، فالدولة الدينية لا تتسامح أبدًا مع الكفار إلّا في فترة نشأتها تحسبًا لرد فعل شعوب البلاد التي تمّ غزوها باعتبارهم الأغلبية فيها، فالتسامح الديني هو في حقيقته مفهومٌ حضاريٌ حديث وليس مفهومًا دينيًا. وأورد فرج فودة ليؤكد فكرته هذه بعضًا ممّا ورد في صفحات كُتب الفقه عمّا يُسمى بالشروط المستحبّة في معاملة أهل الذمّة منها ما كتبه عبد الجواد ياسين وما نصّه: “وتكلم كثيرٌ من أهل الفقه عن شروطٍ أخرى مُستحبّة تٌضاف إلى هذه الشروط المُستحقة: لُبس الغيار وهي الملابس ذات اللون المخالف للون ملابس المسلمين لتمييزهم عنهم، ومنها كذلك ألّا تعلو أصوات نواقيسهم وتلاوة كتبهم، وألّا تعلو أبنيتهم فوق أبنية المسلمين، وألّا يُجاهروا بشرب الخمر أو يظهروا صلبانهم وخنازيرهم، وأن يخفوا دفن موتاهم ولا يجاهروا بندبٍ عليهم ولا نياحةٍ، وأن يُمنعوا من ركوب الخيل… (الدين لله والوطن للجميع) هو شعارٌ ساذجٌ ينطق مع قائله بغياب وعيه كليةً بقضية الإسلام، فضلًا عن غياب علمه بحقائقه الأولية، ففي دولة الإسلام ينقسم الناس إلى قسمين: المسلمين وغير المسلمين، فأمّا المسلمون فهم أصحاب الدولة والسلطان والقائمون على الناس بالقسط، وأمّا غيرهم فهم أهل عهدٍ وذمةٍ إذا رضوا، فلهم عهدهم وعلى المسلمين برّهم وهم تحت السلطان، وإن لم يرضوا فهم أهل حربٍ وعدوان… ولذلك يحلو للأقلية النصرانية في مصر أن تتحدث كثيرًا عن الوحدة الوطنية فهم في ظلّها والمسلمون سواء، فلا جزية يعطونها عن يدٍ وهم صاغرون، ولا إحساس بالدينونة لحكم المؤمنين، وأمّا في ظلّ دولة الإسلام فلا مفرّ من الجزية ولا مشاركة في الحكم، ولا اعتماد عليهم في دفعٍ أو جهادٍ، وإنّما هم دومًا في حالةٍ ينبغي أن تشعرهم بقوة الإسلام وعظمته وسموّه وبره وخيره وكرمه وسماحته أيّ في حالةٍ تدفعهم للدخول فيه اختيارًا “! 

وكم من كتبٍ فقهيةٍ كررت هذه الأحكام وتبنّت هذا الخطاب، وكم نسمع يوميًا من خطبٍ لرجال الدين تحشي عقول الناس بهذه الأفكار… أفهل هذا تسامحٌ ديني وهل هذه حقًا حرية اختيار؟ ومن هنا ترى الباحثة أنّ الحكم الديني لن يؤدي إلّا إلى تمزيق الوطن ونشر الفتنة الطائفية كونه يقسّم الناس إلى مسلمين وغير مسلمين أيّ إلى مواطنين من الدرجة الأولى ومواطنين من الدرجة الثانية ممّا يكرّس بدوره تفرقةً وتمييزًا بين المواطنين في الحقوق، فليس من حق المسيحي أو الدرزي أو الأزيدي أو الملحد في دولنا اليوم أن يتولّى منصب رئيس البلاد مهما بلغت كفاءته، كما لا تعترف دولنا اليوم لا بالإلحاد ولا بالديانات الوثنية كالديانة الأزيدية، بل تخضعهم للقوانين الإسلامية في الأحوال الشخصية لكونهم كفّارًا من منظور الدين الإسلامي الذي يعد المصدر الأوّل للتشريع، وسيتم تفصيل ذلك فيما بعد.

كما أنّ سيطرة الأديان على القانون وعلى الدول تؤدي إلى تراجع تحرر النساء وتعاظم خطورة مصيرهن، فحيث ينتشر التعصب الديني في الحقل السياسي يكون وضع المرأة هو حجر المِحك لاختبار درجة التحرر العام. ففي أفغانستان لم تضع الإطاحة بطالبان حدًا لفرض البُرقع هذا الكفن من القماش الذي يُخفي كل الجسد ولا يسمح للعيون أن تكتشف العالم إلّا من خلف شبكةٍ من القماش. وفي النيجر حُكم على امرأة أدينت بالزنا بالرجم حتى الموت وهي أمينةٌ صافية. وحيث تحكم الشريعة تخضع العائلة لقانونٍ قاسٍ يتعلق بالجنسين؛ طلاق من طرف واحد ودور كبير للأخ الأكبر والأب والعم وعدم المساواة في تحصيل العلم وفي الحياة المهنية والحياة العامّة، وتتحول المرأة إلى جزءٍ من المحيط الخاص بالرجل فلا تتعدى كونها شيئًا وخادمةً، ولا حق لها في حياةٍ عامّةٍ حرةٍ ولا تستطيع اتخاذ المبادرة وتحقيق ذاتها في المجتمع، وهذا ما يرمز إليه الحجاب والبُرقع الذي يستخدم لدسّ المرأة في قبرها ولحجبها عن العالم وعن أنظار الآخرين ما عدا من يُسمح له في محيط السلطة العائلية ذاتها. فبالنسبة للنساء تكون علمنة القانون وتحريره من حرفية النصوص المقدسة مفتاح التحرر من مجتمعٍ أبويٍ فات زمانه وهذا ينطبق على النصوص المقدسة المسيحية كما الإسلامية، فعند الحديث عن إلغاء المفهوم الذكوري لرب العائلة وتحرير المرأة وإعطائها الحق بالوقف الإرادي للحمل وغيرها هو الحديث عن جعل النساء صاحبات حقٍ وقادراتٍ اجتماعيًا على الفوز بالمساواة أمام الرجل.

كما أنّ إنشاء دولةٍ دينية ينطوي على خطورة تجريم الكثير من جوانب الحياة الحالية فسوف يصبح الغناء دعوةً للزنى والرقص مجونًا والتمثيل فسقًا ونحت التماثيل كفرًا وتزيّن المرأة تبرجًا من الجاهلية الأولى.

ففي الهند، محاولة نهرو عام 1948م إعادة تعريفها كبلدٍ علمانيٍ من أجل إتاحة التعايش السلمي بين الهنود وبين المسلمين والمؤمنين الآخرين والملحدين، قد باءت بالفشل حيث تجددت المواجهات بين الأديان بشدة لتبدو وكأنّها تحطم الإطار العلماني الذي أُعدَّ لتفادي تلك المواجهات، فإنّ آلافًا من المسلمين يتم ذبحهم من قِبل الهنود الذين يبتغون فرض هويتهم الدينية واللغوية على البلاد على أنّها الهوية الوحيدة، معرضين للخطر مصير 130 مليون مسلم. وفي باكستان بعد تثبيت الشريعة الإسلامية في الدستور أصبح الملحدون والمسيحيون مهددين دائمًا ومُدانين بوضوح، أمّا في الجزائر فبعد أن فشلت الجماعات الإسلامية سياسيًا في السيطرة على الدولة بدأت تحاول تأجيج الشارع، وكانت إحباطات ما بعد الاستعمار وانحراف الديمقراطية توفر للحركة الإسلامية السياسية ميدانًا ممتازًا. أمّا في إسرائيل فإنّ الانحراف اللاهوتي السياسي واضحٌ جدًا رغم البُعد العلماني للصهيونية الأولية فباسم الأرض الموعودة والشعب المختار يُجرِّد المستوطنون اليهود الفلسطينيين من أراضيهم بالقوة، كما أنّ تطييف الدولة الظاهر عبر الممارسات والقوانين سيؤدي بالضرورة إلى إعادة بنائها على أسسٍ عرقيةٍ دينيةٍ، وهذا واضحٌ من أنّ أول زيارة بروتوكولية يقوم بها رئيس الوزراء تكون لحائط المبكى، وهذا بليغ الدلالة على التواطؤ اللاهوتي السياسي، عدا عن أنّ تقديس هذا المكان يزيد من تأجيج الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ويُنهي أيّ أملٍ للفلسطينيين بقيام دولةٍ متصلةٍ الأراضي لهم وقابلة للحياة الاقتصادية.

في الولايات المتحدة الأمريكية تُعيد الحركة المسيحية ” المولودون من جديد ” ارتباطها بالأصولية المسيحية والرجعية بشكلٍ مميزٍ، فإنّ قراءة الكتاب المقدس قراءةً حرفية وفق الصيغة الأصولية تقود إلى مواقفٍ رجعيةٍ لا تقلّ رجعيةً عن الأصولية الإسلامية، أيّ العداء للبشرية ورفض الوقف الإرادي للحمل وحتى إرسال وحدات ” كوماندوس ” لمنعه في المستشفيات! والتشهير العلني بالحياة الخاصة لرجال السياسة كما حدث مع كلينتون وتبرير الحكم بالإعدام وإدانة الديانات الأخرى وشجب الإلحاد ومحاولة منع التعليم العلمي للبيولوجيا… إلخ، مثل هذه الحركة تتصور أنّ أتباعها من المختارين المكلفين برسالةٍ تطهيريةٍ تترجم سياسيًا كمشروعٍ للسيطرة وتجعل الشعب الأمريكي هو الشعب المختار الجديد، وهذا الخيال تضاعف بعد 11 أيلول وتضاعف تابعوه المبشرون به عشرات المرات، الذين بدأوا الهجوم على الإسلام وخلطوا عن عمد الإسلام مع الإسلاموية السياسية ونعتوا النبي محمد بالمجرم، وهنا يثور تساؤل إن كان النبي محمد مجرمًا ومرتبطًا بما حدث في 11 أيلول، فلما لا يُنعت المسيح بالمجرم ويرتبط اسمه باسم توركيمادا الذي كان من أبرز القضاة في محاكم التفتيش المسيحية؟ إنّ الحديث عن المواجهة بين إمبراطورية الخير وإمبراطورية الشر لأدبياتٌ طفوليٌة. 

وسنكمل الحديث حول مبررات الأخذ بالعلمانية (الجزء الثاني)…  يتبع…

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى