مقالات الأعضاء

العلمانية (19): علاقة الدولة بالدين في التجربة السياسية العربية الإسلامية عبر التاريخ (5)

وردّ بعض المُدافعين عن العلمانية على كل من يقول أنّ هذا الفصل بين الدين والدولة أيّ بين الدين والتدبير الدنيوي يُراد منه التأسيس لعلاقة صراع بينهما، فبحسب فؤاد زكريا العلمانية لا تعادي الدين ولا تفصله عن الحياة وإنّما ما يُراد منها هو إبعاد الدين عن ميدان التنظيم السياسي للمجتمع، والإبقاء على هذا الميدان بشرياً بحتاً تتصارع فيه جماعاتٌ لا يمكن لواحدةٍ منها أن تزعم بأنّها الناطقة بلسان السماء، فأساس المفاضلة بين المواقف والأفكار المختلفة يجب أن يكون العقل والمنطق والمقدرة على الإتيان بحلولٍ واقعيةٍ ناجحةٍ… فأيّة دعوى إلى الارتكاز على سندٍ سماوي في هذا الصراع ليست إلّا تضليلاً يُخفي وراءه رغبةً شديدةً في إلغاء هذا الصراع الذي يُشكّل أساس حيوية وتقدّم المجتمعات. وكدليلٍ على أنّ العلمانية لا تعادي الدين أنّه حتى في المجتمعات الغربية التي تعيش في ظلّ العلمانية منذ قرون، قلّما تجد من يرفض ممارسةً حياتيةً تتمُ وفق تعاليمٍ دينية، حتى أنّ العلمانيين العرب أنفسهم والذين يرفضون توجيه النظام الساسي في المجتمع توجيهاً مرتكزاً على سلطة الدين، تجد أحدهم يتزوج بوثيقة شرعية إسلامية، أو يعقد زواجه في الكنيسة، وتجد منهم من يستشهد بالقيم والمبادئ الدينية ويطبقها في الكثير من جوانب سلوكه الاجتماعي والشخصي، دون أن يكون في ذلك أيّ خروجٍ عن علمانيته

وكذلك بمراجعة تطبيقات العلمانية في أوروبا يُلاحظ تعدد التجارب العلمانية بتعدد الدول الغربية، فبعض الدول كألمانيا مثلاً تجمع الضرائب لصالح الكنيسة، وحتى فرنسا التي يعتقد البعض أنّها تمتلك أصلب التجارب العلمانية، لا تُكن العداء للدين إلّا إذا حاول أن يتدخّل في شؤون الدولة أو يتغلغل في المؤسسات.

وهناك بعض المفكرين يذهبون في هذا الإطار إلى أنّ جميع الأديان تخضع للتحولات والتطورات نفسها؛ حيث تنشأ في البداية من دون دور عبادة ولا رجال دين يحتكرون العلاقة المباشرة مع الله أو الوحي، إلّا أنّه مع مرور الزمن تنشأ على هامش كل دين نصوصٌ ومؤسساتٌ تدّعي امتلاك حقّ تأويل مُراد الله، وتخلق نصوصاً موازية للنصوص الدينية الأصلية؛ فلقد ظهر التلمود إلى جانب التوراة في اليهودية، وتعددت الأناجيل في المسيحية، وبرزت مصنّفاتٌ كاملةٌ من الأحاديث النبوية في الإسلام، وهو ما صاحبه قيام مؤسسات تمنع على الناس الخوض في شؤون الدين إلّا بموافقة الكنيسة والمشيخة ودار الإفتاء والحوزة، بالإضافة إلى بروز رجال دينٍ نافسوا رجال السياسة وأخذوا مكانهم، كما وجدت دعوات دينية ترفض العلم، وتقول بالخرافة، وتحارب استعمال العقل، ولا ترى من القوانين إلّا ما تنصّ عليه الشريعة.

وهنا يرى محمد أركون أنّ الأديان السماوية أدخلت بُعد الوحي إلى النظرة الإنسانية فأصبحت هذه النظرة مركزةً على الله وموجهةً نحوه، فلم يعد تجريداً ذهنياً وإنّما أصبح إلهاً حياً يتكلم ويتدخل في تاريخ البشر ويعبّر عن إرادته ويصدر أوامره لكي يقود التاريخ طِبقاً للمنظور والمخطط الذي أراده، ومُعطى الوحي هذا أصبح محدداً بدقة ومحصوراً في عددٍ محددٍ من العبارات اللغوية التي يمكن قراءتها، فآل كلام الله إلى مدونةٍ نصيةٍ رسميةٍ مغلقةٍ تسمى تارةً توراة وتارةً إنجيل وتارةً أخرى قرآن أو مصحف، كما يُلاحظ في المجال الإسلامي خصوصاً أنّ الخطاب الشفهي الذي نطق به النبي محمد قد تحول أيضاً بعد وفاته إلى مدونةٍ نصيةٍ رسميةٍ مغلقةٍ أيّ إلى مصحفٍ أيضاً وأصبح بذلك عُرضةً للتأويل المستمر من أجل توجيه التاريخ، ولهذا يرى أركون أنّه من المهم الفصل بين ” كلام الله ” و” القرآن “، فكلام الله لاينفذ ولا يمكن أن ينفذ ونحن البشر لا نعرفه بكليته، وما أوحي إلى موسى وعيسى ومحمد وبقية الأنبياء إلّا أجزاءٌ متقطعةٌ من كلام الله الكلي، ونظرية ” الكتاب السماوي ” واللوح المحفوظ ” ليسا إلّا رمزاً للقول بأنّ هناك كتاباً آخر يحتوي على كلام الله كاملاً وليس القرآن إلّا تجلياً أرضياً لجزءٍ من كلام الله المحفوظ ذاك. والخطاب القرآني لم يدعَ خطاباً إلّا لأنّه لم يكن مكتوباً في البداية، وأنّما كان كلاماً شفهياً ينبثق على هوى المناسبات والظروف المتغيرة وقد استمر ذلك عشرين عاماً، وكذلك في المسيحية فيسوع قد تكلم طوال ثلاثة أعوام باللغة الآرامية وكان كلامه يندرج ضمن تراثٍ دينيٍ محددٍ في ظلّ قوتين تضغطان قوة الكنيس والمعبد اليهودي وقوة الإمبراطورية الرومانية، وفي كلتا الحالتين كان هناك تلاميذٌ وحواريون يصغون لكلام النبي الذي يتكلم لغتهم البشرية ويحفظون ما يقوله عن ظهر قلب، الذي لم يعد الباحثون قادرون على تمحيصه بواسطة المنهج التاريخي، وهذا الحفظ عن طريق الذاكرة دام فترةً من الزمن وتحول بعد ذلك إلى نصٍ كتابيٍ مسجل تحت إمرة السلطة السياسية وهذا ما تعنيه عبارة مدونة نصية رسمية، وسُميت هذه المدونة بأنّها مغلقةً لأنّه بعد الانتهاء من عملية جمع مجمل العبارات الشفهية المعترف بها بأنّها صحيحةً وموثوقةً أُعلن أنّ هذه المدونة أصبحت مغلقةً ولم يعد لأيّ شخصٍ أن يضيف لها أو يجتزء منها أيّ شيء. وبعد أن تشكلت هذه المدونة راح من يعتبرون أنفسهم من الطبقة الخاصة العالمة يشمرون عن سواعدهم لاستثمار هذه المدونة فبدأوا يقرأونها ويفسرونها ويستخرجون منها الفقه والقانون ويشكلون لاهوتاً ويرسمون منظومةً أخلاقيةً، ليشكلوا بعد ذلك مجموعةً من المؤسسات وهذا ما يدعى اليوم بكتب التفاسير، والواقع بأنّه يوجد عددٌ من التفاسير بقدر ما يوجد من المفسرين بل وحتى من القراء الذين يفسرون على طريقتهم الخاصة، فينتجون كل يومٍ نصوصاً مفسرةً جديدةً. وأنّ تبنّي الإنسان المؤمن ما يدعى ” بمعطى الوحي ” دون تساؤل أو نقاش يستند إلى افتراضه ضمنياً بأنّ هذا المعطى متعالٍ وآتٍ من الله وهو ينأى عن كل مناقشةٍ بشريةٍ، وفي نفس الوقت يقرّ المؤمن بأنّ هناك فئةً خاصةً من البشر ذات عددٍ محدودٍ هي وحدها المخوّلة والمؤهلة لقراءة معطى الوحي وتفسيره ولاستخراج القانون المقدس منه الذي يشكل أساس القانون القضائي التشريعي والقانون الأخلاقي، ثم يفرضون هذه القوانين على المجتمع البشري معتبرين أنّها مشتقة بشكلٍ صحيحٍ من الوحي دون أدنى شك، فتشكل هذه القوانين والعقائد المشتقة من الوحي سياجاً دوغمائياً مغلقاً يقبل العقل البشري أن ينحصر داخله، ويستبطن منه رؤيته للأشياء وللعالم حوله وتتحول هذه الرؤيا إلى ممارسةٍ يوميةٍ بواسطة الشعائر والطقوس، فتصبح هذه الرؤيا على هيئة ما يسميه بيير بورديو ” عادةً متجسدةً ”  تسكن الإنسان من الداخل ولا يمكنه التخلص منها بسهولة لأنّها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من جسده عن طريق العادة والتكرار.

ولكنّ أركون، وهو علماني الهوى ومدرّس في المدارس الفرنسية، يتّهم ” العلمانية المناضلة ” في فرنسا كما سمّاها، بأنّها تُحدث قطيعة جذرية مع الوحي وتفترض أنّ وجود الله ليس ضرورياً من أجل العيش وأنّ الوحي هو ليس إلّا ظاهرةً يدرسها المؤرخون وعلماء الاجتماع كأيّ ظاهرةٍ أخرى ولا يُفضّل أن يتقيدوا بها لكي تتحقق لهم الاستقلالية الكلية للعقل، حيث يتم المرور على قصة الوحي مرور الكرام في المدارس الثانوية الفرنسية عند الحديث عن كتابات بعض المؤلفين المسيحيين وعن الصراعات الدموية العنيفة التي سادت فرنسا وأوربا، وهو يحبّذ أن تتم دراسة الوحي بشكلٍ أعمق لتوضيح قوته وتأثيره على المسار التاريخي للشعوب والثقافات وأنظمة الفكر باعتباره عاملاً تاريخياً هاماً ساهم في صناعة مجتمعات الكتاب مشيراً إلى دراسة حديثة أعدّها تتناول الإطار العلمي والمراحل الضرورية لدراسة مفهوم الوحي بشكلٍ حديثٍ تحت عنوان   ” مفهوم الوحي: من أهل الكتاب إلى مجتمعات الكتاب “.

        خلاصة ما سبق كلّه أنّ الخلافة التي أسسها المسلمون ليست إلّا دولة المجتمع الإسلامي التاريخي المعبرة عن مشاكله وأزماته، وليست دولة الله التي تجسد إرادته أو حتى التي تضع نفسها في خدمته. إنّها دولة المسلمين بما هم كائنات بشرية قابلة للخطأ والصواب وبما هم جماعة مدنية ذات مصالحٍ ماديةٍ متضاربةٍ وخاضعةٍ لكل أنواع النقص. فالإسلام لم يُخلّف نظرية في الحكم كنظريات الفيزياء، وهذا غير ممكن من الناحية العملية أصلاً، لأنّه لو وجدت نظرية إسلامية في الحكم لكان ذلك يعني إلغاء فكرة التطور في وسائل الحكم والإدارة وتحويل المجتمع الإنساني إلى شيءٍ ثابتٍ ونظامٍ ميتٍ لا يتطور وهذا يعني إلغاء التاريخ نفسه.

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى