مقالات الأعضاء

العلمانية (20): عوامل نجاح العلمانية في بعض المجتمعات وفشلها في البعض الآخر

إنّ ما ساعد على ترسيخ الإيمان بالعلمانية في المجتمع السياسي الحديث هو النتائج الإيجابية التي شهدتها المجتمعات الغربية والتي دلّت على نجاح العلمانية، منها التطور الفعلي والكبير الذي شهدته الحياة السياسية والمدنية، وما عرفه الدين نفسه من تطور في مفاهيمه الروحية والإنسانية دون أن يفقد المكانة والاحترام اللائقين به كما كان يخاف رجال الدين.

هذا النجاح هو الأرضية لنشوء وتطور الموقف العلماني في العالم، حيث بدأ العالم يتخلّى في فهم نفسه أكثر فأكثر عن اللجوء إلى التفسيرات اللاهوتية الأسطورية، فالإنسان الحديث لم يعد يلجأ إلى آليات السحر لفهم العالم والتعامل معه وتحديد موقفه منه ومن أقرانه، فاستغنى عن تلك الأحكام المسبقة التي لا تُناقش، وكان من نتائج ذلك أن برزت قيمة النشاط الإبداعي والفكري على حساب التراث الديني وغير الديني، واستقرت في ذهن الأفراد مفاهيمٌ ومعانٍ جديدة للحريات والحقوق التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من ماهية الإنسان ووجوده، كما ضعُف التعلّق بالقوانين أو الشرائع المفروضة من قِبل مصدرٍ خارجيٍ دينيًا كان أم مدنيًا. وهكذا تحولت العلمانية من برنامجٍ سياسيٍ إلى توجّهٍ فكريٍ ونفسيٍ يطبع الوعي الاجتماعي العام بطابع العقلانية والموضوعية والبُعد عن التفسيرات التقليدية للأمور الأرضية، فبدا الواقع الاجتماعي والسياسي معقولًا وواعيًا لذاته وتوافق الدين مع الدنيا وهذا ما يسعى له كل مجتمع.

أمّا سبب فشل الحركات العلمانية ورفضها في الكثير من البلدان لا يعود إلى فشل المبادئ العلمانية بل لأنّ البعض يراها مرتبطةً بدول الاستعمار الجديد التي كرّست الفساد الاقتصادي والسياسي في هذه الدول، والتي تسيطر على القانون الدولي وتوجّهه لمصالحها وهنا يُقصد الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الظروف لا تُنتج سوى تأجيج الأحقاد وإعطاء المبرر للحركات الأصولية المتشددة؛ لأنّ قصص الضحايا والأشخاص المثخنون بالجراح والإهانات والإحباطات التي تتعرّض لها هذه الشعوب تعد أخطر المنابع للتشدد الديني، فلا يجد الأفراد ملجًا سوى الدين الذي يوفّر لهم الوعد بالثأر.

ثمّ إنّ المجانين في الله الذين شجعتهم أمريكا لتستخدمهم في لعبة الشطرنج مع الاتحاد السوفييتي في أفغانستان وباكستان واستخدمتهم لمنع ظهور دولٍ علمانيةٍ تقدميةٍ ذات سيادةٍ مستقلةٍ عن الغرب، هم أنفسهم من حملوا الموت إلى قلب مدينة منهاتن في أحداث 11 أيلول، وللأسف في هذه اللحظة فقط بدأ العالم يشعر بالخطر الداهم النابع من هؤلاء الناس الذين يقودون حرب الآلهة، ولمحاربة هذا التفكير المنحرف فمن المشكوك به أن تكون القوة الغاشمة هي الحلّ، بل الحلّ يكمن في تضميد جراح هذه الشعوب التي تديم شعورهم بالظلم وتغذي إحباطاتهم.

كما يرى البعض الآخر أنّ فشل الحركات العلمانية في البلاد العربية ذات الأغلبية المسلمة يرجع:

أولًا إلى علمانية أتاتورك التي اتّسمت باللاتسامح على اعتبار أنّها كانت التجربة العلمانية الوحيدة في مجال الإسلام في ذلك الوقت، فبعد أن استولى أتاتورك على السلطة في تركيا غدية الحرب العالمية الأولى راح يلغي الطربوش والزي التقليدي كلّه من أجل فرض القبعة الأوربية والبنطلون ثم منع إرخاء اللحى والشوارب وحذف التقويم الإسلامي والحروف العربية في الكتابة ومنع التعليم الديني في المدارس…، حيث سعت حركته إلى استبعاد كل إشارةٍ إلى الدين في المجتمع معتبرًا أنّه ينتمي إلى عصرٍ مضى وانقضى، والواقع أنّه لا يمكن القول عن موقفه هذا أنّه موقفٌ علماني بل هو موقفٌ أيديولوجي عدواني ومغلق لا يقلّ تعصبًا وانغلاقًا عن مواقف رجال الدين. 

وثانيًا إلى عدم حصول شعوب هذه البلاد على فترةٍ زمنيةٍ كافيةٍ للتطور؛ ففي الوقت الذي ألغى فيه أتاتورك السلطنة في تركيا كانت معظم الدول العربية والإسلامية تحت الهيمنة الاستعمارية الغربية من المغرب الأقصى إلى أندونيسيا، وكانت المؤسسة السياسية معطّلة في هذه الدول وكان الاستعمار يعيق التطور الداخلي والذاتي الخاص بهذه المجتمعات، واستمر ذلك حتى اندلاع حروب التحرير الوطنية في الخمسينات، ومع حصول هذه الدول على استقلالها بدأت تسترد سيادتها وبدأت الأمور بالتحلحل منذ أربعين عامًا فقط وهذه فترةٌ قصيرةٌ في حياة الدول والشعوب والتجارب التاريخية، أيّ لم تأخذ هذه الشعوب المبادرة ذاتيًا ولم تحدد مصيرها بنفسها إلّا قبل أربعين عامًا فقط وهي فترة لا تعني شيئًا في عمر التنمية والتطور التاريخي للأمم والشعوب وليست كافيةً لتأسيس نظامٍ سياسيٍ منفتحٍ ومتسامحٍ قضت دول أخرى كفرنسا عدة قرونٍ في إنشائه وبنائه ومع ذلك لا تزال تشوبه النواقص حتى الآن.

ولذلك فإنّ تعلُّق شعوب هذه الدول، وهم من الغالبية المسلمة، حتى اليوم بقوةٍ وعنفٍ بالقرآن واستمرار تمسّكهم بالعقلية التقليدية عائد إلى وجود فراغٍ فكريٍ ينتظر من يملأه، ولا يعود إلى زمن الاستعمار كما يُشاع وإنّما إلى ما قبل ذلك بوقتٍ طويلٍ مع التأكيد على أنّ الاستعمار قد زاد من تفاقمه وحدته.  وهنا نرى بأنّ هذه الشعوب لم تتحرر فعليًا بعد أن نالت الاستقلال عن الاستعمار الغربي، كما يُقال، وإنّما بقيت رازحةً تحت حكمٍ ديكتاتوريٍ استبداديٍ طوال الخمسين عامًا الماضية، ومنه فلم تحصل شعوب الدول العربية يومًا على فرصتها لحكم نفسها بنفسها أو لتطوير وتنمية مجتمعاتها من الناحية الفكرية والسياسية للوصول إلى أنظمةٍ سياسيةٍ متطورةٍ ومتسامحة.

 

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة

لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى