معلّمات القرآن الكريم “القبيسيّات سابقًا”

جماعةٌ إسلاميةٌ صوفيةٌ لكنها نسويةً لا يدخلها الرجال، تُنسب إلى منيرة القبيسي التي أسّست الجماعة في ستينيّات القرن الماضي متأثرةً بدروس وأفكار الشيخ أحمد كفتارو مفتي سوريا السابق، حيث كانت تلميذةً مقربةً منه ووصلت إلى مرتبة آنسة في حلقات الدراسة لديه، غير أنّ نشاطها بدأ بالتوسع بعد تولّي بشار الأسد حكم سوريا، وباتت حركةً لها فروعها ومؤسساتها ومعاهدها، وامتد نشاطها من التعليم الديني إلى العمل الخيري، وتركز عملها في مراكز بعض المدن السورية كالعاصمة دمشق وحمص، واجتذبت إليها عضواتٍ من فئاتٍ اجتماعيةٍ بارزة، واعتمدت هذه الجماعة في بنائها على هيكليةٍ ذات تسلسلٍ هرميٍ تُلزم التلميذات المنضويات في الجماعة بصرامةٍ بطاعة شيخاتهن بل وتقديسهن وفق البعض، ولا يوجد في تاريخ الإسلام جماعةٌ دينيةٌ نسويةٌ كجماعة القبيسيّات.

هناك من شكك في مرامي وأهداف هذه الجماعة عقائديًا وسياسيًا لكن رئيس النظام السوري أظهر اهتمامًا بها، والتقى عضواتها أكثر من مرة، مما طرح تساؤلاتٍ عن أسباب هذا الاهتمام بينما البلد يعاني من صراعٍ دامٍ منذ تفجير الثورة على النظام السوري، وعن طبيعة علاقة القبيسيّات بالنظام السوري وأجهزته الأمنية، وأهدافها الحقيقية وحدود انتشارها في سوريا، وعن مدى تأثرها بالثورة السورية، وكيفية تمددها إلى خارج الأراضي السورية إلى دولٍ عربيةٍ وحتى غربية.

القبيسيات جماعةٌ إسلاميةٌ سُنيّةٌ دعويةٌ مغلقةٌ ليست تنظيمًا ولا حركةً عامةً وليست تيارًا، تعتمد هيكليةً شبه تنظيميةٍ غير معلنةٍ، نواتها من طبقة أثرياء دمشق ونشاطها الحقيقي والجاد يستهدف هذه الطبقة، وهي حركةٌ نسويةٌ تتبع تيارًا يؤمن بالولاء للحاكم وفق الرؤية الصوفية العميقة، وهي النظرية التي تقول: لا يجوز الخروج على الحاكم بأي شكلٍ من الأشكال، متبعةً قول الشيخ أحمد كقتارو: (لو الدولة خرجت حسب عقيدتك عن شيء من الإسلام لايجوز أن تقم عليها بثورة، لأن الثورة على الدولة تصنع فتنةً أكثر من الغلط الذي تعتقد أن الدولة قائمةً عليه).

ويقول بعض المتخصصين بالحركات الدينية بأن هذه الجماعة نشأت كردة فعلٍ على انخراط المجموعات الدينية  في السياسة، كجماعة الأخوان المسلمين والحركة السورية السلفية، ولتلبي حاجة المجتمع المعنوية للدين.

إن صعود هذه الجماعة في السبعينات كان مرتبطًا بصعود الشيخ أحمد كفتارو وتحالفه القوي مع سلطة حزب البعث وحافظ الأسد تحديدًا، وبنفس الوقت تعزّز صعود منيرة القبيسي. فالقبيسيّات وكما شكلتهن الآنسة منيرة وكما بينت المناهج والتربية هنّ مزيجٌ من ثلاثة مدراسٍ أساسية: الصوفية الطُرقية، التي هي امتدادٌ لجماعة الشيخ أحمد كفتارو، والصوفية العلمية، وهي امتدادٌ لجماعة الشيخ عبد الكريم الرفاعي، ومريجٌ للعلمية الحركية، والتي هي امتدادٌ لفكر كلية الشريعة في جامعة دمشق وعموم جماعات الأخوان المسلمين.

وفي مطلع ثمانينات القرن الماضي بلغ الصراع بين حافظ الأسد ومعارضية من جماعة الأخوان المسلمين ذروته بشنه حملةً عسكريةً ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من سكان مدينة حماة، لتشهد البلاد بعدها موجةً واسعةً من الاعتقالات طالت العديد من الجماعات الدينية، وكان الإتجاه العام لنظام الحكم البعثي هو ضد التوجه الديني، وتم إطلاق مفهوم الإسلام السياسي على كل الجماعات الدينية، وأصبح من الواضح أنّ المطلوب فقط الحديث بالجوانب العبادية وعدم التدخل في أي شيء آخر. في هذه الفترة من التضييق الأمني على المظاهر الدينية وعلى ممارسة الشعائر الدينية بين الناس، استطاعت القبيسيّات نشر الدعوة بين سيدات وفتيات مدينة دمشق وريفها، مستندةً على العائلات النخبوية كقاعدةٍ لجماعتها، واستطعن أيضًا تشكيل مجالس وحلقات دينية للفتيات ضمن بيوتٍ آمنةٍ في حارات دمشق، غير أن شرط الانتساب لها كان المحافظة على السريّة التامّة بكل ما يتعلق بشؤون الجماعة.

عندما قرر حافظ الأسد مواجهة جماعة الأخوان المسلمين حرص على أن لا يُظهر أمام المجتمع وأمام المؤسسات الدعوية أنّه يستهدف الإسلام، هذا دفعه أن يعطي هامشًا من العمل وإن كان ضيقًا للجماعات الأخرى التي لا تتدخل في السياسة، فمن هذا القبيل تمّ غض الطرف عن نشاط القبيسيات، كما تم غض الطرف عن نشاط الجماهات الدينية الأخرى. ففي سوريا لا يتحرك ساكنًا إلا بعلم الأمن فما بالك إذا كان هذا التحرك ضمن تيارٍ دينيٍ يعمل في العاصمة دمشق وريفها، لذلك كان تيار القبيسيّات يعمل بشكلٍ مريحٍ كما كان يعمل تيار كفتارو بحلقاته ومعاهده، واستغله النظام ليكون في مواجهة التيار الديني الأخواني في سوريا، فكانت التوجيهات بعدم الاقتراب منه وتم تأطيره ليكون بديلًا للفكر الديني، وربطه بفكر التصوف وبالتالي تمّ تحييد المجتمع الدمشقي والمجتمع الذي يدور في فلكه من بقية المحافظات عن الحالة السياسية في سوريا.

بنت منيرة القبيسي جماعتها معتمدةً على هيكليةٍ ذات تسلسلٍ هرميٍ فتأتي الآنسات الكبار (الحاجات) بالحجاب الأسود في أعلى هرم إدارة الجماعة، ومهمتهن إدارة الجماعة وتقرير الخطط والبرامج التدريسيّة، في الدرجة الثانية تأتي الآنسات بالحجاب الأزرق وهنّ الأذرع التنفيذية للحاجات، ويقع على عاتقهن استقطاب الفتيات وعقد الحلقات الدراسية، وتأتي في الطبقة الثالثة الطالبات بالحجاب الأبيض (المُريدات)، ويأتي في الدرجة الرابعة الحلقات المفتوحة والتي يتم اختيار الطالبات من خلالها وتُفرض الطاعة بحسب تلك التراتبية كلٌ حسب درجته داخل الجماعة.

باستلام بشار الأسد الحكم في سوريا عام 2000 بدأ عقدٌ جديدٌ مع القبيسيات، فتوجه النظام لضبط الحالة الاجتماعية وكان عنوان هذا الضبط “إعادة القبيسيات إلى المساجد والمعاهد الشرعية” ومنع نشاطهن في البيوت، فظهرن إلى العلن وأصبح عملهن علنيُا.

بعد انطلاق الثورة السورية قام بشار الأسد بعقد عدة لقاءاتٍ علنيةٍ مع الداعيات القبيسيّات ممّا أثار الكثير من التساؤلات عن سر هذا الصعود المفاجئ لهن، وأعطى توجيهاته برعاية هذه الحركة النسائية الدينية، وعيّن الآنسة سلمى عياش معاونةً لوزير الأوقاف عام 2014 (وهي من المقربين لوزير الأوقاف)، وكان وزير الأوقاف يحاول في كل مرةٍ أن يوصل رسالةً للعامة بأن القبيسيّات مع النظام فيوجه شكرًا خاصًا للحاجة منيرة القبيسي وللداعيات اللواتي كن سندًا وعضدًا للنظام خلال هذه الأزمة.

لقد وجدت القبيسيات في الثورة السورية تهديدًا لسلطتهن الاجتماعية ومشروع تغييرٍ منافسٍ لها، فلن تكون هناك أنسةٌ قبيسيةٌ كبيرةٌ تقف بجانب الثورة ضد نظامٍ اتربط زوجها بمصالحٍ مشتركةٍ معه.

هذه الجماعة أصبحت بالمفهوم العام حليفةً كجماعةٍ دينيةٍ لنظام الأسد، يستفيد منها في شرعنة حربه على الثورة السورية، وفي تكرار سرديته بأنّ الحرب ليست على مطالبٍ شعبيةٍ محقة، وليست على مكونٍ معين، وإنّما هي حربٌ على الإرهاب الذي لا يمثّله كل المسلمين وإنّما تمثله فئةٌ مرتهنةٌ للخارج. وغالبًا ما يعرف النظام القبيسيّات بأنهن داعياتٍ لتحفيظ القرآن، ولهن دورٌ بارزٌ خلال الحرب على سوريا في مواجهة التطرف الديني.

ففي ظلّ الأنظمة الدكتاتورية دائمًا يُنظر إلى الحركات الدينية على أنّها أداةٌ يمكن استخدامها، فواحدةٌ من المجموعات المنظمة ذات التيار الواسع كالقبيسيات ستكون مغريةً للنظام لاستخدامها، ومن جهةٍ أخرى إنّ بنية هذه المجموعة التنظيمية والقيادات التي شكلتها والطبقة الموثرة فيها والتي هي طبقةٌ اقتصاديةٌ متحالفةٌ مع السلطة أغرت النظام أيضًا لاستخدامها، فتحالُف المال والسلطة والدين في هذه المجموعة شجع النظام لاستخدامها كأداةٍ من أدوات السلطة.

ويبدو الارتباط جليًا بين النظام وقيادات القبيسيات كسلمى عياش معاونة وزير الأوقاف وأميرة جبريل الفلسطينية الأصل شقيقة أحمد جربيل زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقائد مليشيا الجبهة الشعبية الفلسطسنية في مخيم اليرموك، الذي استخدم قوته العسكرية لقمع الفلسطينين والسوريين دعمًا للنظام، ونداء حرم أغاسي وسوسن فلاحة وأخريات تربطهن علاقاتٌ متشابكةٌ ومقرّبة من رجالات ساسة وأعمال النظام كمحمد حمشو وغيره.

وتمددت جماعة القبيسيات إلى خارج الأراضي السورية إلى دولٍ عربيةٍ وحتى غربية، فاُطلق عليهن في الأردن الطّباعيّات نسبة إلى شيختهن فادية الطباع، وفي لبنان السّحريّات نسبة إلى شيختهن سحر حلبي. وفي الكويت يسمين “بنات البيادر”. ولهن بعض الانتشار في بلاد الاغتراب الأوروبية والأمريكية وفي أستراليا بحكم زواجهن من مغتربين هناك، وبفعل الهجرة القديمة والحديثة، فقد  وصلن إلى هذه الدول وعملن بها داعياتٍ لكن بشكل أقل انتشارًا وتأثيرًا؛ فقد لوحظ نشاطٌ لهن في إسطنبول وأمريكا وأستراليا وفرنسا وانكلترا لا سيما عقب الثّورة السورية.

مارغريت (ناشطة مدنيّة مستقلة)