“الشياطين الزرق” لا يريدون التوصل إلى حلّ
مقال للدكتور برهان غليون ردًّا على تعليقٍ لأحد قرائه
في تعليقه على أحد مقالاتي الأخيرة، كتب أسامة سلو: “صار لنا عشر سنوات نسمع نفس الكلام. اهترأت وانشطرت قلوبنا. نريد الحلول. أنتم بالخارج، لماذا لحد الآن لا تتواصلون مع الشياطين الزرق لحلّ هذه القضية؟”. والمقصود طبعا إيجاد حل للصراع القائم في سورية وعلى أراضيها، والذي تشارك فيه خمس دول على الأقل، وأصبح ذا أبعاد إقليمية ودولية طاغية.
وقد أجبته باختصار بأنّ “الشياطين الزرق” لا يريدون التوصل إلى حلّ. وبعضهم لا يستطيعون أو لا يتفقون على الحلّ: أي على تقاسم الفريسة. لذلك الحلّ عندنا – نحن السوريين – وإلا لا يوجد حل. ولأنّه عندنا، فإنّ من واجبنا أن نبحث نحن أنفسنا عنه. وإذا رفضنا ذلك، أو أخفقنا فيه، ينبغي ألّا نلوم سوى أنفسنا. فلا يمكن أن نتوقع أن يكون “الشياطين الزرق” أرحم بنا من أنفسنا.
ويبدو لي اليوم أن السبب الأكبر في استمرار المحنة السورية من دون حل هو الاقتناع الذي تملّك أكثر السوريين، من النخبة المثقفة والسياسية والجمهور أيضا، بأنه لا يوجد حلّ في جعبتنا نحن، بل لن يمكننا، مهما كان الحال، أن نصل إلى حل بيننا، بعد الرد الهمجي والصاعق للنظام على جمهور الثورة الذي يمثل غالبية الشعب، وبعد انقسام الرأي العام، وتفتت قوى المعارضة وتهافتها، ونجاح حلفاء النظام وعديد من الدول الحليفة وشبه الحليفة في تغيير النظر إلى ما يحصل في البلاد من مسألة صراع سياسي من أجل الحرية واسترجاع الناس حقوقهم وحرياتهم الأساسية إلى مسألةٍ بدت، في البداية، ثانويةً، لكن سرعان ما تحوّلت إلى المسألة المركزية بالنسبة لجميع الأطراف العربية والدولية، وهي الحرب ضد الإرهاب، وفي ما وراءها لجم الصعود الشعبي الواسع في المنطقة كلها الذي يحمل في طياته، كما لا يزال، الاعتقاد سائدا، انتصار الإسلاموية التي صارت تختصر في نظر كثيرين روح الديانة الإسلامية ذاتها.
بدأت هذه الديناميكية السلبية التي انتهت بتخلّي قطاعات واسعة من الرأي العام، العربي والعالمي، عما سمي الربيع العربي، منذ اللحظة التي واجهت فيها الأنظمة القائمة النشطاء الشباب بوابل من الرصاص، قبل أن يتحول القمع إلى تنظيم للمجازر الدموية، وفي سورية إلى قصف المدنيين وتدمير المدن بالبراميل المتفجرة وعدم التردّد في استخدام الأسلحة الكيميائية. وهذا ما دفع عديدين منا إلى تعليق آمالهم على التدخل الدولي على منوال ما حصل سابقا في ليبيا. وعزّزت هذا الميل حاجة فصائل المعارضة إلى السلاح والذخيرة لمواجهة طوفان المليشيات الإيرانية، وفي مقدمتها حزب الله اللبناني، ووقف عدوانها. لكن تهميش المعارضة وإخراجها من ساحة الصراع، ومعها قضية الثورة التحرّرية ذاتها، لم يتحقق إلا بعد الإعلان المدوي عن قيام دولة الخلافة الداعشية في مدينة الرقة، ورفض فصائل المعارضة التخلّي عن أولوياتها لصالح المشاركة في هذه الحرب، والتفرغ لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية وحده، وهو ما جعل من مكافحة الجائحة الجهادية المعركة الوحيدة المعترف بها في نظر المجتمع الدولي، على الرغم من استمراره في إدانة الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان على يد مليشيات إيران والقوات النظامية الرديفة لها.
وما من شك أيضا في أن تفاقم الانقسامات داخل صفوف الثورة والمعارضة قد عزّز الاعتقاد بقصور السوريين، وعجزهم عن التفاهم في ما بينهم، للتوصل إلى حلول متفاوض عليها وقابلة للحياة. هكذا انتهى الأمر بتسليم أوراق القضية بنسبة 99%، حسب عبارة قديمة لأنور السادات، للمجتمع الدولي، في انتظار أن يحصل التوافق الدولي المنتظر والروسي الأميركي بشكل خاص في يوم ما. وشيئا فشيئا، تقلّص دور المعارضات، بجميع تياراتها، إلى مطالبة المجتمع الدولي بتدخلٍ جدّي، والتذكير بالقرارات الدولية والتمسّك بها كما لو كانت وثائق ملكية، أو آيات “قرآنية” يعزّز تردادها فرص تطبيقها، ويضمن التزام الدول المعنية بتعهداتها. وفي هذا السياق، بدأت مجموعات المعارضة المختلفة سباقها على إنشاء المنصّات السياسية المختلفة، والحصول على دعم العواصم المعتبرة، أملا بأن تحجز لنفسها المكان اللائق بها في أي مفاوضات أو هيئات انتقالية تسفر عنها مفاوضات التسوية السياسية. واستسهل عديدون منها إجهاض مؤسسات المعارضة القائمة: من مجلس وطني وائتلاف وهيئة مفاوضات ثم لجنة دستورية، بأمل انتزاع مواقع أفضل لهم في المؤسسات البديلة التي سوف تحل محلها. والنتيجة فقدان جميع المؤسسات صدقيتها، وانحسار اعتراف الدول واهتمامها بها، بعد انحسار اهتمامها بالقضية السورية ذاتها.
وبعدما خسرنا، كما كان متوقعا، كل ما كنا قد أنجزناه من مكاسب، ومن رصيد سياسي، لقاء سنوات من التضحيات الشعبية الاستثنائية، لم يعد لنا خيار، ولا صار يضيرنا العمل، كقوى رديفة، إلى جانب الدول الأجنبية ولخدمة أجنداتها الخاصة والإقليمية. وبمقدار ما أصبحنا ندين بمواقعنا إن لم يكن ببقائنا لدعم هذه الدول ونفوذها، لم نعد نعرف، على ما ذكّرنا به حازم صاغية، في تعليقه على عاقبة الانسحاب الأميركي من أفغانستان، في ما إذا كان من مصلحتنا أن نطالب برحيل القوات الأجنبية من بلادنا، أم أن نتمسّك ببقائها وتوسيع تدخلها.
لكن، على الرغم من وضعنا ثقتنا كاملة في المداولات الدولية، وتوظيف كل جهودنا في بناء الصداقات مع جميع العواصم المعنية، ها نحن لا نزال نراوح في المكان، ولم نتقدم خطوة إلى الأمام. بالعكس، غاب أفق الحل تماما أمامنا، فلا الأمم المتحدة قادرة على تنفيذ قراراتها، ولا تدخلات الدول تجاوزت مستوى الضغط بعقوباتٍ لا تكلفها شيئا، ولكنها تضعف مقاومة الشعب بمقدار ما تقوّض الدولة وتفكّك النظام وتحوّله إلى عصابات نهب وسلب. ولا يبدو أن هناك دولة، بين تلك التي راهنا على دعمها، ترى أن لها في سورية من المصالح ما يدعوها إلى أن تبذل مزيدا من الجهد، وما بالك بالتفكير بمواجهة طهران، المهندسة الحقيقية للحرب، والمستفيدة الرئيسية منها. بل يعتقد معظمها أن غرق طهران في مستنقع الخراب المشرقي ربما كان الوسيلة الأفضل لاحتواء قوتها العسكرية المتنامية، وتشديد العزلة المفروضة عليها. ولن يضير الدول الأطلسية، إذا ما احتاج الأمر، أن تنسحب من المشرق، وتتخلّى عن مصالحها فيه، إذا كان هذا هو الثمن لتحقيق هذا الاحتواء، ولتجنب أي مواجهة، في انتظار أن يفعل الزمن فعله.
لذلك، لم تعد القضية السورية تحظى، كما هو واضح للجميع، باهتمام كبير، وربما بأي اهتمام، من المجتمع الدولي، وفي طليعته الدول الغربية، والعربية أيضا. ولا يبدو أن الدول الخمس التي تشارك في الحرب السورية مستعجلةً للتوصل إلى حل. بل إن لبعضها، مثل إيران، مصلحة في تعطيل أي حل، لأن مزيدا من الخراب والفوضى والانهيار لدول المشرق ومجتمعاته يعني أيضا مزيدا من الفرص والإمكانات لتمزيق فريستها أشلاء، وتسهيل ابتلاعها وفرض سلطتها ونفوذها في كل المجالات والمؤسسات المنهارة. هكذا تغيب سورية شعبا ودولة عن المشهد باضطراد، ويتزايد غرقها، يوما بعد آخر، بل ساعةً بعد ساعة، في وحل سياسات التطهير الطائفي والتغيير الديمغرافي والتقويض السياسي والثقافي والديني لهوية البلاد ووجودها.
عن الانتقال السياسي الموعود والكاذب… لن نتقدّم أبدا في قضيتنا، طالما بقينا نعتقد أن الحل للمحنة السورية لن يأتي إلا من الخارج، أو هو في يد واشنطن وموسكو وطهران وأنقرة وغيرها، وأننا غير قادرين، أو ليست لدينا القدرة المادية والمعنوية التي تؤهلنا للخروج منها بوسائلنا الذاتية. لقد فقدنا بالتأكيد السيطرة على مصيرنا وثقة المجتمع الدولي بإمكاناتنا السياسية، وأصبحنا ضحية تفاهم دولي على تقاسم مصالحنا، لا على حمايتها أو المحافظة عليها. لكن ينبغي أن يكون هذا الوضع هو الحافز لنا للخروج من سلبيتنا، والسعي إلى استعادة المبادرة في علاج قصورنا وتقرير مصيرنا. وما أفسده الدهر وما لا يمكن للعطار إصلاحه لا يمكن إصلاحه إلا بإرادة قوية وروح مبادرة استثنائية، ومعجزة ذاتية. ولنا في ذلك أسوة في نجاح الشعوب في القرن الماضي في تجاوز الصدمة الاستعمارية التي لم تكن تتوقعها، ولم يكن لها خيار في حصولها، فلم يأت الاستقلال هدية من هذه الدول لأي شعب، ولكنه حصل نتيجة تصميم الشعوب واستعادتها ثقتها بنفسها، وتصلب إرادتها، وعزمها على مواجهة قصورها ونقاط ضعفها وانقساماتها ونزاعاتها الداخلية، أي على تنمية قواها الذاتية واستثمارها الواقع النقيض الذي ولدته الحركة الاستعمارية ذاتها، أعني روح القومية والدفاع عن الهوية والحق في مواكبة المدنية. وهذا ما ألهم الشعوب إبداع استراتيجيات عديدة لإبطال التفوق الاستراتيجي للمحتل، والتعلّم من الانتفاضات المدنية، وحروب العصابات، والحروب الطويلة المدى، التي مكّنتها من بناء قواها الذاتية وتغيير موازين القوة الذي فرض على المحتلين التخلي عن أطماعهم أو التفاوض على مناقشتها.
لا يعني ذلك تجاهل دور المجتمع الدولي، أو التخلّي عن العمل معه وعليه، مهما كان موقف أعضائه، لأننا من دون ذلك لن نستطيع أن نثمر عملنا على المسار الداخلي أيضا. إنما من دون النجاح في إعادة بناء الذات، الذي لا يحصل إلا بالاشتباك مع الواقعين، الداخلي والخارجي، معا، والاستمرار في العمل ومراكمة المكاسب والنجاحات وتثميرها لصالح المشروع الداخلي الوطني، لن تكون للدعم الخارجي أي قيمة تذكر. وقد أظهر الانسحاب الأميركي من أفغانستان، أخيرا، بعد إنفاق أكثر من تريليوني دولار لدعم نظام من صنعها وموال لها، أن التغيير المفروض من الخارج لا أمل له بالبقاء والصمود. وهذا هو أيضا درس العراق الذي لا يزال غارقا في أزمته يحاول عبثا، بعد عقدين، الخروج من الفوضى التي أدخلته فيها التجاذبات الإقليمية والدولية. وهو يؤكد أن الشعوب التي تخفق في معالجة الأسباب الذاتية لأزماتها ونزاعاتها، سواء كانت ناجمة عن الخيارات السياسية الخاطئة لحكوماتها، أو عن الاختلالات والتناقضات البنيوية التي ورثتها من تاريخها وجغرافيتها السياسية وظروف تكوينها، تبقى عرضة لامتحان دائم لوجودها، وتنتقل من أزمة إلى أخرى، ومن انتفاضة إلى انتفاضة، بمقدار ما تعجز عن بناء أسس ثابتة للتفاهم بين جماعاتها ومواطنيها وتُخفق في بلورة إطار وطني شرعي ومقبول من جميع أطيافها.
وفي سورية، كما هو الحال في المشرق وفي جميع أنحاء العالم، ليس هناك حل أو مخرج من دون العودة إلى التفكير في الاختلالات والتناقضات العميقة التي أدّت إلى اختطاف الدولة وانهيار المجتمع، وإيجاد الحلول المناسبة للانقسامات والتصدّعات التي تسببت بها الحرب الدموية التي أعقبتها، والتي تخصّ السوريين وحدهم، حتى لو كان التدخل الخارجي صديقا، وهو ليس كذلك على الإطلاق. بل إن النجاح في حلحلة العقد الداخلية ومعالجة الاستقطابات وأسباب التناحر التي شتتت جهود الناس وحرمتهم من إمكانية العمل بشكل مشترك للخروج من شرك الحرب الطائفية والقومية والإيديولوجية الذي أوقعهم فيه النظام، هو شرط الاستفادة من تناقضات المصالح الدولية والإقليمية، وكذلك من دعم الدول الصديقة وضغوطها الرديفة.
هل أصبح بإمكاننا بعد سنوات طويلة من المعاناة وخيبة الأمل وتغول العدو وتخلي الصديق أن نتغلّب على إحباطنا ويأسنا ونستعيد الثقة بأنفسنا ونأخذ مصيرنا بأيدينا ونستعيد المبادرة لإنجاز ما لم يشأ المجتمع الدولي، أو ما لم يستطع، تحقيقه، ونبدأ نحن أنفسنا في الانفتاح والحوار والتشاور على مستوى الشعب ونخبه الحية، من أجل وضع مشروع الانتقال السياسي في حيز التطبيق بقيادة السوريين هذه المرة بالفعل وملكيتهم وبجهودهم، بدل أن نستمر في رهن مصيرنا لتفاهم الدول وتوافقاتها التي نشهد اليوم مدى هشاشتها وانحيازها في محنة درعا الحالية؟ هذا هو أو ينبغي أن يكون الرد البسيط على فشل الرهان على الآخرين الذين أظهروا أنه ليست لهم أي مصلحة في العمل لبسط السلام والأمن في سورية، ولا من باب أولى إعادة توحيدها.
لن يكون البحث عن تفاهم داخلي سهلا، وليس الطريق معبدا له، ولا الوسائل والتسويات الصغيرة والكبيرة التي علينا صياغتها والقبول بها جاهزة وفي متناول اليد. ولن يكون أيضا ثمرة لمعة عبقرية لفرد أو جماعة. إنه لن ينبع إلا من انبثاق إرادة قوية ومشتركة للخروج من المحنة واستعداد الجميع للمشاركة في التفكير في المشكلات والسياسات التي أدّت، عقودا قبل الثورة، إلى تقويض الدولة وأن تختطفها طغمة لا تشعر بأي انتماء، ولا يهمها مصير الدولة ولا مصير شعبها، بل هي، بالعكس، تشعر بالنصر والفخار لنجاحها في تقويضها وإذلال الشعب وتجويعه وإخضاعه لكل أصناف الاحتلال. ومن دون ظهور هذه الإرادة الموحدة والتحلي بشجاعة الاعتراف بالعيوب والنقائص وتصفية الحسابات المعلقة لبدء حياة جديدة على أسس المساواة والعدل والإنصاف والتعاون والتضامن، كما هو حال الشعوب المتمدنة، لن يكون هناك أي انتقال سياسي، وسيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تحقيق الخلاص لأحد.
وفي المقابل، لا يعني فشلنا في ذلك سوى الاعتراف بأننا غير قادرين على التفاهم، وأننا لسنا شعبا أو أهلا لتكوين شعب، ولا يمكن أن نستمر في العيش معا إلا في ظل نظام الاستبداد وقانون القهر والطغيان. وإذا ساد هذا الاعتقاد، وهو في طريقه إلى ذلك، سوف نمهد نحن أنفسنا الطريق، عاجلا أم آجلا، لإعادة تأهيل المجتمع الدولي نظام الأسد، تصديقا لما نسب من قول لعمرو بن العاص: “سلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم”. فهل هناك خيارٌ ثالث يجنبنا المحنتين: الفتنة الدائمة أو السلطة الغاشمة؟ هذا هو السؤال وهو التحدّي في الوقت نفسه.