مفهوم الحريّة (1): دراسة حول مفهوم الحرية وتطوره في المجتمعات المختلفة
كلمة واحدة تسببت بهدر سيولٍ من الدماء وتكدست من أجلها الجثث منذ فجر التاريخ، غنّى لها المقهورون داخل قوارب العبيد من سواحل إفريقيا إلى موانئ أوروبا، من ساحات باريس أثناء الثورة الفرنسية إلى موسكو خلال ثورة البلاشفة، من داخل مراكز الاعتقال النازية مرورًا بهتافات السود في مدن الولايات المتحدة وصرخات النساء ضد الأبوية والمثليين ضد مجتمعات ترفضهم، والقائمة لا تنتهي، وكلهم هتفوا بكلمةٍ واحدةٍ “حريّة”
تلك الكلمة السحرية التي يرددها الجميع، رددناها في الثورات السورية منذ عقود، طالبنا بها في وجداننا، وحلمنا بها في أحلام يقظتنا قبل أن نصدح بها في شوارع سوريا وقراها قبل عشر سنوات، نطالب بها نصرةً للجولان ولواء اسكندرون، تطالب بها نساؤنا، يطالب بها المتدينون من كافة الطوائف، تنادي بها الشيوعية والرأسمالية، الاشتراكية والفاشية، وكلّ مصطلحٍ ونقيضه، بالإضافة إلى الأقليات والأغلبية ويصدح بها نظام سوريا وعمائم إيران وملتحيي السعودية، الإسرائيلين والفلسطينين، سود أمريكا وشعوب وأعراق عديدة سمعنا بها أو لم نسمع .
بالنظر إلى هذه الجوقة التي تتغنّى بالحريّة وتهتف لها نرى بوضوح مدى تناقض وعدم انسجام المطالبين بها على اختلاف خلفياتهم، وكلٌ يتشدق ويغني على ليلاه وقافيته الخاصة مع تعريبه لمفهوم الحرية بطريقةٍ تحقق مصالحه الخاصة وبالنهاية نرى بوضوح أنّ الحرية تحولت إلى كائنٍ شنيعٍ وكريه، جنينٍ مشوهٍ كناتجٍ عن علاقةٍ كان أطرافها وحوشًا وشياطينًا آدميّة.
فلنلقي نظرة بانورامية لبعض المطالبين بأبوية هذا الجنين الشيطاني اللذي أطلق عليه اعتباطًا اسم الحرية :
_نظامٌ فاشيٌ قمعيٌ أعلن الحرية كهدفٍ من أهداف حزبه الحاكم, حرية ألقت بأبناء البلد في غياهب السجون والمعتقلات، وأردت مئات آلاف القتلى، ونُهبت من أجلها خيرات البلد، وشردت الملايين بعيدًا عن منازلهم.
_متدينٌ يصدح ويجاهر ويدافع عن دينه بكونه حامي الحريات العامّة ومؤسس المدنية في هذا الكوكب ولكن فقط من باب الصدف ترى هذا المتدين يرعب الناس بأهوال الجحيم والغضب الإلهي في حال أنهم قرروا ممارسة حرية اعتقادهم وملبسهم ونظرتهم للحياة بشكل عام .
_إثنيةٌ معينةٌ تطالب بحريتها عن طريق إفهامنا أنّهم وحدهم أهل الأرض وأنّهم هم المالكين للتراب والسماء وأنّهم يجب أن يبقوا وحيدين هنا ولهم كامل حرية التصرف في هذه البقعة من الأرض .
_ربّ أسرةٍ يتشدّق بأنّه حرّ، وطالب بلحرية في الشوارع، وتعرض للسجن والاعتقال، وفي بعض الأحوال تلقّى بضع رصاصات، ولكن بنفس الوقت الحرية هي ألعن شيئٍ يمكن أن يقوم به فيما يتعلق بـ “حريمه” أو “الأضلاع القاصرة” من نساء العائلة، فالحرية بالنهاية من وجهة نظره لا تتضمن الحريم وذلك منطقي جدًا ويشعره بالإطمئنان ويعد البيت مساحة للتعبير عن استبداده وعقدة الشوارب المتراكمة على شفتيه منذ فترة العصملي المجيدة .
وقائمة المعاتيه والمتشدقين بالحرية تطول وتطول…
والسؤال هنا لماذا؟ لماذا هذا اللغط ومن أين ومنذ متى انطوت تحت عباءة الحرية – كمصطلحٍ مستعملٍ – جميع هذه المتناقضات؟
بكلمةٍ أخرى ما هو مفهوم الحرية وإلى ماذا ترمز ؟ ومن له الحق بالتشدق بها؟ وهل جميع هؤلاء مدركين لما يطالبون به؟ فبالنهاية لهم كامل الحريّة أليس كذلك؟
أسئلةٌ طرحها الكثير من الناس وخصوصًا الفلاسفة وعلماء النفس والمفكرين والكتاب والمحللين، وهذا هو هدف هذا المقال الذي سوف يتكون من عدة أجزاءٍ، وسنحاول في كلّ جزءٍ تسليط الضوء على عددٍ من النظريات والأبحاث التي قام بها عددٌ من المفكرين والفلاسفة بهذا السياق.
لماذا نقوم بذلك وما الهدف؟ وهل فعلا لدينا الوقت لذلك؟ وهل هذه من أولوياتنا في الفترة الراهنة؟
ببساطة بعد الفشل الواضح والصريح في جوانبٍ عديدةٍ في الثورة السورية ترائى لنا واضحًا وجليًا مدى جلهنا جميعًا بما نطالب به، ويجب علينا أولا إدارك مشاكلنا، وأين أخطأنا، لنصصح بعدها المسار على ضوء وهدى، وليس كالعميان، وبذلك لن نفسح المجال للمتسلقين وأصحاب المصالح الخاصة للتسلق على ثورتنا ودماء ضحاياها.
بالطبع مشاكلنا كثيرة وجمّة، بعضنا معتقل والآخر مشرد أو لاجئ، وكلٌ منّا لديه فقيدٌ أو شهيد أو مغيب، فهل ياترى لدينا الوقت للأبحاث والدراسات والثقافة؟
الجواب هو أنّ من لديه الاستيعاب اللازم للأزمة السورية وكيف انقلبت راسًا على عقب، وكيف تم التغرير بشعبٍ كامل، و تم سوقه كالأغنام في عدة اتجاهات، سواء باتجاه النظام والتشبيح أو الإخوان ومتطرفي الإسلام أو من تقوقع على نفسه من أقليات البلد وتظاهر أن لا شيئ يحدث أو كما فعل الكثيرون وخصوصًا في بلاد اللجوء، فاستقالو من كل ما هو سوري وفضلو الابتعاد عن المشهد بشكلٍ كاملٍ واعتمدو مبدأ الحيط الحيط واللي بيجي من الله ما أحلاه.
وحده الواعي لكلّ ما سبق والمدرك لمدى المصيبة التي وقعنا بها ومدى جهلنا بأين نمضي وكيف، سوف يدرك أهمية وضرورة إعادة صياغة وتفسير جميع المفاهيم المحيطة بنا وتسمية الأشياء بمسمياتها، وأنّ اللبنة الأولى باتجاه بناء مجتمعٍ مدني علماني واعي لما يفعله، وبإنشاء قاعدةٍ واسعةٍ وصلبةٍ من أفراد المجتمع الفاعلين المدركين لما حولهم ولديهم ملكة المحاكمة العقلية والنقد الذاتي، هي توسيع مدارك فهمنا لعددٍ من المصطلحات والنظريات والأفكار وتجارب الأمم الأخرى، وطبعًا الأحرى بنا البدء بما نحلم جميعنا بتحقيقه، ونعمل لأجله، ونسعى لبلوغه، وهو “المجتمع الحر”، وبداية طريق مجتمعٍ كهذا هي أن نفهم ما معنى أن نكون أحرارًا، وما معنى الحرية.
يتبع في الجزء الأول القادم بعنوان ” عندما تبدأ حرية الاخرين”.
الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
آرام قبّاني (ناشط حقوقي)