مقالات الأعضاء

العلمانية (2): تأثير العلمانية على الممارسة السياسية

تباشر العلمانية تأثيرها في ميدانين رئيسيين: ميدان المجتمع السياسي حيث تقضي على النظام الثيوقراطي وهو نظام  حكمٍ يستمد الحاكم فيه سلطته مباشرةً من الإله، وميدان النشاط العقلي حيث تعمل على تصفية الإرث الماضي والقضاء على النظام اللاهوتي واستبداله بالنظام العلمي كمصدرٍ وحيدٍ للمعرفة الصحيحة واليقينية. فإلغاء العوامل التي تقوم بتخريب المجتمع والعقل بما تخلقه من انسداد في النظام السياسي والعلمي، والخروج من الأزمة التي تُعيق تطور الدولة والعلم، يستدعي استقلال كل طرف بميدان نشاطه الفعلي، فالدين ينظم شؤون الروح والخلاص الآخروي، والسياسة تنظم شؤون المجتمع والسلطة العامّة.

كانت العلمانية في مرحلتها الأولى حرباً معلنةً ضدّ السلطة الكنسية فكانت موجهةً للعمل والنشاط السياسي فقط، أمّا التطور الروحي داخل الدين وخارجه أيّ تطور الوعي والضمير فكان يتغذى من نظريةٍ أخرى معادية أيضاً بدورها للدين التقليدي المحافظ لكنها متميزة عن العلمانية التي ترمز إلى معركة سياسية بالدرجة الأولى، وهذه النظرية هي الإنسانوية. ولكن بعد أن أنجزت العلمانية مهمتها كنظريةٍ سياسيةٍ بتحرير السلطة العامّة من الدين وبإعطاء السيادة على الروح للكنيسة، أخذت تتماهى أكثر فأكثر مع الثورة العقلية وتشير إلى نمط عقلاني جديد من استيعاب العالم المادي. هذا النمط العقلاني الذي يؤكد على القيمة الأصلية للحياة الدنيا وعلى الوسائل العقلية والتجربة الإنسانية ورفض التنكر لها أو التضحية بها باسم القيم اللاهوتية وكذلك رفض تعليق الخير كلّه بالحياة الآخروية. وهذا خلق موقفاً جديداً من العالم يرى أنّ العدالة والتضامن والحرية والنظام يمكن تحقيقها في المجتمعات الأرضية ولا ضرورة لانتظار تحققها في ملكوت السماء، وبدأ الإنسان يتوقف عن الاستسلام للقدر والواقع وينتظر الانطلاق إلى عالمٍ آخر خيالي، بل أصبح يعتقد أنّ بإمكانه أن يضع حداً لتعسف الطبيعة والإنسان واستبداد السلطة. ومن هذا الموقف الجديد للبشر تعالت مطالبهم في الحياة الكريمة وتطورت رؤيتهم لحقوقهم الطبيعية والأساسية وأخذ نصيبهم من الدنيا، كما تطور إيمانهم بإمكانية إصلاح شروط الحياة على الأرض، وأصبح العدل الذي كان حلماً معلقاً على قدوم المسيح والمهدي المُنتظر والحياة الآخروية هدفاً قائماً وواجب التحقيق في كل مجتمع دون تأخير. وصار من الممكن تصور الحياة الاجتماعية كموضوع للتفكير والتغيير حسب قواعد وقوانين ثابتة مُتفق عليها، وصار الاحتجاج على السلطة الذي كان يُعتبر في الماضي فتنةً، حقاً وواجباً بشرياً لردع الظلم والقهر. ففي مواجهة الفكر التقليدي للكنيسة الذي كان يضع إرادة الله في تعارضٍ دائمٍ مع إرادة الإنسان لتبرير إخضاعه للكنيسة، تطور شعورٌ عميقٌ بأنّ مشيئة الله ليست مناقضةً ومنافيةً لمشيئة الإنسان لكنها داعمةً وكافلةً لها، وهذا أدى إلى تطور تيار الحياة والتأكيد على قيمتها وقيمة العقل والعمل والجهد والثروة والتمتع بالكسب والإنجاز، وهذا ما أدى إلى تفجًر ثورةٍ دينيةٍ إصلاحيةٍ مهدّت للثورة العقلية، فقد كان لا بد من تحطيم وصاية الكنيسة على الإيمان حتى يستطيع الفكر الدنيوي أن يثبت وجوده وينمو.

إنّ وجود مثل هذا التوجه الإنساني العقلاني هو شرطٌ لا غنى عنه لنمو الحضارة؛ لأنّ الانتقاص من قيمة العقل يسبب العجز عن تنمية الواقع والعالم وزوال القدرة عن المشاركة في الحضارة. ولقد جاءت العلمانية رافضةً تحقير الإنسان ومؤكدةً أنّه يستطيع أن يعتمد على نفسه ويُنمّي قواه العقلية وقيم الخير من خلال التربية الإنسانية والعقلية، فأصبح الخير مرتبطاً بالعقل وأصبح بالإمكان تحقيق مجتمعٍ أرضيٍ يتسّم بالخير والعدالة ويُكافح من أجلهما عِوضاً عن انتظار مجيء المُخلّص ومجيء القيامة، وبهذا أصبحت العلمانية حركةً إنسانيةً عامّةً تُعبّر عن تطور الحضارة وتطور سيطرة الإنسان على الظواهر الاجتماعية والطبيعية التي كانت تشكل بالنسبة له مظهراً لإرادة عشوائية لا قانون لها ولا يمكن للعقل أن يكشف أسرارها.

بعدما نجحت العلمانية بانتزاع الدولة من براثن الدين وحررت العقل والإنسان وجعلت من الدولة مقراً للحريات الفردية والجماعية وساحةً حياديةً من الناحية الفكرية والعقيدية، واستبعدت الصراع الفكري من داخل الدولة واستبدلته بصراعٍ سياسيٍ على برامجٍ محددةٍ لا على فلسفاتٍ كونيةٍ، سمحت بخلق الإطار العام الذي يشعر فيه الجميع ويعيشون فيه وطنيتهم بصرف النظر عن مذاهبهم، في حين يبقى الصراع الفكري والمذهبي حراً على مستوى المجتمع المدني ويخضع لقانون المنافسة في الإبداع والعقلنة الذاتية. ولكن ما كان ذلك ليتحقق دون تأكيد مبدأ الحرية أيّ تثبيت مبدأ التداول الحقيقي السلمي للسلطة العامّة المحايدة مذهبياً، وهذا الذي يضمن حق كافة الجماعات والمذاهب المتساوي في النفاذ إلى الدولة ضمن قواعدٍ ومعاييرٍ وشروطٍ واحدة، فلو أنّ الدولة تعلمنت ولكن في إطار الدكتاتورية ولم تستطع هذه الجماعات المتنوعة أن تنفذ إلى السلطة بشروطٍ واحدة، فإنّها ستتحول إلى حالة فصل ظاهري فقط بين الدولة وأيّ مذهبٍ وستكون في حقيقتها غطاءً للسلطة المذهبية كما هو الحال في الدول العربية ومنها سوريا، وكما كان الحال في الدول الشيوعية وستعزّز بذلك الفتنة الطائفية.

يتبع…

الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى