توثيق

إصلاح القطاع العام أم إقصاء ممنهج؟

"دراسة حقوقيّة - الجزء الثاني " العسكريون

عقب انهيار النظام السوري، أعلنت حكومة تصريف الأعمال في سوريا حل الجيش السوري وجميع الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السابق، وأعلن وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال عن خطة لإصلاح المؤسسة الأمنية، فوجد الآلاف من عناصر الجيش والأمن الداخلي أنفسهم بلا قيادة أو دخل.

عند توجه هؤلاء إلى مراكز التسوية لتسوية أوضاعهم، يواجهون تعقيدات كثيرة، فهم لا يمتلكون هويات مدنية حيث كان يتوجب عليهم تسليمها لجهات مختصة في عهد نظام الأسد، ويكتفون بالتنقل باستخدام هوياتهم العسكرية، وعند تسوية وضعهم يجب عليهم تسليم بطاقاتهم العسكرية للحصول على بطاقة تسوية، إلا أن هناك منهم من فقد هويته العسكرية بسبب تسارع الأحداث التي أطاحت بالنظام مما عقد عليه إجراء التسوية.

وعلمت صحيفة ” الشرق ” من ضباط وعناصر أمنيين في النظام السابق، أنهم يواجهون صعوبات فيما يتعلق بمسألة تسليم السلاح أثناء التسوية، فكثيرون منهم فقدوا أسلحتهم بسبب سقوط المحافظات بشكل سريع، وتخلي القيادات عنهم، وبعضهم أصلاً فقدها في طريق تنقله بين المحافظات بعدما سلمها لحواجز إدارة العمليات العسكرية.

حيث تفاجؤوا بأن بعض مراكز التسوية ترفض قبول تسوياتهم دون تسليم أسلحتهم، مهما كانت التبريرات والأعذار، ومن هذه المراكز “الكسوة- القطيفة- التل” في دمشق وريفها، حيث يطلب القائمون على هذه المراكز من فاقدي أسلحتهم شراء أسلحة بدل التي فقدوها حتى تُقبل طلبات التسوية الخاصة بهم.

يعيش الكثيرون بدون راتب أو وثائق، ممّا يحد من فرصهم في العمل. بعضهم أصبح يعتمد على الأعمال الصغيرة لتأمين معيشته، ممّا يزيد من معاناتهم.

لقد استهدفت هذه القرارات أيضاً العاملين في الخدمات الإدارية في المؤسستين الأمنية والعسكرية فهم لا يعرفون مصيرهم ، هل سيعودون إلى أعمالهم وماذا عن رواتبهم، وماذا عن المتقاعدين أو من كان يسوي وضعه للتقاعد قبل سقوط النظام. الكل أصبحوا بلا عمل وبلا وثائق ثبوتية مدنية تخولهم البحث عن عمل.

كما استهدفت هذه القرارات أيضا المتطوعين الجدد في الجيش السوري الذين تطوعوا نظراً لوجود فجوة كبيرة بين راتب العسكري النظامي الذي لا يتجاوز بضعة دولارات وراتب المتطوع والمكافآت التي يتقاضاها. وذلك نتيجة الجوع والعوز .

وذات الأمر حصل مع عناصر الجيش الحر الذين اضطرهم الجوع والعوز للالتحاق بالفصائل الممولة من الخارج للعمل تحت أجندتها ووفق سياساتها التي تتنافى في الغالب مع أخلاقياتهم.

فماذا عن مستقبلهم وكيف سيواجهون هذه التحديات؟

إن غالبية العناصر المتضررين من هذا القرار هم من الفقراء، علمًا بأن غالبية الأسر السورية تحت خط الفقر، ففي ظل عدم توافر ما يكفي من المساعدات الإنسانية المقدمة من الدول، وفي ظل استمرار العقوبات على سوريا لا يمكن لهؤلاء العناصر إيجاد مصدر دخل آخر لتأمين حاجاتهم الأساسية فلا توجد فرص عمل ومستودعات الجمعيات الخيرية فارغة.

ومنهم من هو معيل لأسرة ولوادين عجّز، ومنهم المعاق بسبب إصابات المعارك، ومنهم المتقاعدين، فالكل بحاجة للعلاج والدواء فضلا عن الغذاء ومتطلبات العيش اليومية.

من أبرز الحالات التي قمنا بتوثيقها عائلة مكونة من ثلاث أسر ولا يملكون أي دخل سوى ذلك الراتب الذي كان مخصصاً لكلٍ منهم من المؤسسة العسكرية.

أحد أفراد هذه العائلة هو من ضابط بالدفاع الجوي منذ 13 عاماً مضت، ولم يشارك بالأعمال القتالية حسب زعمه، عمل على تسوية وضعه ولم يحصل على بطاقة تسوية حتى يخضع لتحقيق لا يعلم أسبابه، صرح بأنّه لم يكن أمامه خيار إما يخدم بالجيش بصفة مجند وتستمر خدمته لسنوات، أو يتطوع بالجيش نظراً لحاجته الماسة للعمل ليأمن دخل يقتات منه ولعدم امتلاكه للمال الكافي للخروج من سوريا، وهو عاطل عن العمل منذ سقوط النظام في 8/12/2024 بعد تلقيه أمراً بالانسحاب، ولا يتقاضي أي راتب شهري، متزوج وليس لديه أولاد، ولا يعمل أي عمل آخر.

 والده متقاعد خدم لمدة 36 سنة في الجيش تسرح عام 2015، وهو مريض بارتفاع  ضغط وكلسترول الدم والسكري وكذلك والدته، وتوقف راتبه التقاعدي وتأمينه الطبي هو وزوجته، وهم بحاجة لأدوية شهرية دورية  وهم عاجزون عن تأمينها اليوم.

وأخيه من المتطوعين في الجيش منذ سنوات أيضاً، وبعد قرار حل الجيش عمل على تسوية وضعه وسلم عهدته (لوحة اسمية معدنية وهوية عسكرية) وخضع لتحقيق في مبنى أمن الدولة القديم بمدينة حماة وحصل على بطاقة انشقاق عن الجيش وهذه البطاقة تسمح له بحركة محدودة فقط، يعمل أعمال بسيطة جداً ليكسب قليلاً من المال وهو ممنوع من السفر كباقي ضباط الجيش وهو متخوف من الذهاب إلى الأمن الداخلي لطلب رفع منع السفر.

إن الإجراءات المتخذة من قبل السلطة الحالية بحق العسكريين ممّن هم على رأس عملهم والمتقاعدين، لا تدخل ضمن اختصاص حكومة تصريف الأعمال، فهذه الحكومة كما أشرنا في الجزء الأول ما هي إلا حكومة مسؤولة عن تسيير الأمور اليومية للمواطنين ولا تتجاوز صلاحياتها هذا الحد.

وإن افترضنا أنّها حكومة انتقالية لا حكومة تسيير أعمال وأنّها تمتلك صلاحيات أكبر من حكومة تصريف الأعمال فكذلك تعد الإجراءات التي اتخذتها غير شرعية وفق أحكام دستور 2012 والقوانين المعمول بها في سوريا، وكذلك بنظر دستور 1950، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: لا يجوز لأي حكومة مهما كان مسماها (دائمة، مؤقتة، انتقالية، تصريف أعمال) أن تعمل دون وجود مظلة دستورية، ولا يحق لها إلغاء الدستور المعمول به في سوريا دون موافقة السلطة التشريعية ممثلة بمجلس الشعب الذي يبقى منعقداً بشكلٍ استثنائي إلى حين الدعوة إلى انتخابات أخرى. وعلى فرض أن مجلس الشعب وافق على إلغاء الدستور المعمول به، فيجب عليه أن يشّرع إعلاناً دستورياً أو أن يتبنى دستوراً سابقاً كدستور 1950 ليوفر مظلة دستورية للحكومة تعمل في إطارها وتكون مرجعاً لها.

إذاً، في الوقت الراهن وفي ظل إلغاء العمل بدستور 2012 وعدم تبني دستور 1950 أو أي إعلان دستوري آخر، تعتبر الحكومة الحالية غير دستورية وغير شرعية كونها غير مقيّدة بأي نوع من أنواع الضوابط المتعارف عليها لدى الدول المتحضرة.

ثانياً: إن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة بحق العسكريين تؤكد عدم انضباطها، وعدم التزامها بأبسط الأعراف والمبادئ الدستورية والقانونية المعمول بها عالمياً ومحلياً. وذلك سنداً لما يلي:

  •  توقيع إجراءات قمعية (الطرد، العزل، الحرمان من الراتب والحرمان من المعاش التقاعدي وسائر التعويضات)، والتي ترقى إلى مستوى العقوبة دون تعريض العسكريين إلى محاكمة عادلة وحتى دون التحقيق معهم وفق الأصول، ممّا يشكل انتهاكاً للمبدأ الدستوري القائل أن كل إنسان بريء حتى يدان بحكم قانوني، والحق في الدفاع والاعتراض، وكذلك الحق بالكرامة الإنسانية وبالضمان الاجتماعي والتحرر من ويلات الفقر والمرض.
  •  إن قوانين الخدمة العسكرية في غالبية الدول ومنها سوريا لا تجيز وقف المرتبات الشهرية مع التعويضات بشكل كامل حتى عند إحالة العسكري إلى القضاء بقرار من السلطة القضائية المختصة، إذ يوجب قانون الخدمة العسكرية السوري (المرسوم التشريعي رقم 18 لعام 2003) في المادة (100/أ و ج) منه دفع نصف الراتب المقطوع للعسكري الموقوف في السجن أو المخلى سبيله مؤقتاً مع كامل التعويض العائلي وتعويض التدفئة من تاريخ صدور المذكرة القضائية وحتى تاريخ إخلاء سبيله أو صدور حكم مبرم.

وفي حال لم يحكم عليه القضاء بأي عقوبة فتدفع له كل المبالغ التي اقتطعت من مرتبه خلال مدة التوقيف، أما إذا حكم بعقوبة فيعتبر ما تقاضاه في فترة التوقيف حقاً مكتسباً له لا يجبر على رده.

  • إن الإجراءات التي تتخذها الحكومة الحالية بحق العسكريين سترهق موازنة الحكومة المنتخبة المقبلة في المستقبل، حيث ستلتزم هذه الحكومة بدفع مستحقات كل هؤلاء العسكريين وحتى أولائك الذين ستصدر أحكام قطعية بحقهم، كما ستلتزم بدفع تعويضات عن الضرر الذي لحق بهم وبعوائلهم خلال هذه الفترة. وزد على كل ما مضى أن قانون العقوبات العسكري وفي حالة إدانة العسكري بأشد العقوبات الجنائية استثنى أسرة المحكوم عليه التي اكتسبت حقوقا بموجب قانون التقاعد من أي تبعات قانونية فتبقى عائلة المحكوم عليه مستفيدة من راتبه التقاعدي بعد تنفيذ الحكم عليه بموجب المادة (165) من قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية ( المرسوم التشريعي 61 لعام 1950).

إن عدم اهتمام الحكومة بهذه الشريحة الواسعة من المسرحين سيزعزع السلم الأهلي، فالفاقة والعوز قد تدفعهم إلى الجنوح إلى الجريمة وخاصة في ظلّ استبعادهم تحت ذريعة إرتكابهم لجرائم ضد الإنسانية في فترة النظام السابق واستبدالهم في ذات الوقت بعناصر مدنية أو من اللجان الشعبية التي كانت قد مارست أبشع الجرائم بحق المعارضة وبحق كل سكان المناطق التابعة للنظام من دون التحقق من ماضيهم وتاريخهم الجرمي، وهذا ما سنتناوله لاحقاً.

الحركة المدنية السورية والتجمع الديمقراطي المدني

المراجع:

https://shorturl.at/X5Tuw 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى