
منذ وصلت السلطة الجديدة للحكم بقيادة أحمد الشرع وهي تسعى لكسب ودّ الشعب السوري والمجتمع الدولي كما تدّعي تمثيل الثورة لضمان استمرارها في الحكم، وعليه فانتهجت وتنتهج سياسات غير محسوبة على جميع الأصعدة وتجرّ معها البلاد والعباد إلى الهاوية.
أحد هذه السياسات كانت إعلان حكومة تصريف الأعمال على لسان وزير ماليتها محمد أبازيد إحالة ثلاثمائة ألف موظف إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية معلّلًا ذلك بإعادة إجراء تقييم للعاملين في القطاع العام، لرفع كفاءة الحكومة ومؤسساتها ولمواجهة البطالة المقنعة التي كرّسها النظام السابق.
نحن مجموعة من الحقوقيين السوريين والنشطاء تواصلنا مع الفئة من العاملين التي شُملت بقرار الوزير لمعرفة الإجراء المتبع في تبليغهم وفي التعاطي معهم، كما تواصلنا مع شريحة واسعة منهم لدراسة آثار القرار على وضعهم المادي والمعيشي.
لقد استهدفت هذه القرارات العاملين المُعينين بصفة ذوي الشهداء (ذوي القتلى كما تسميهم الحكومة الحالية)، العاملين المُعينين بموجب مسابقة المسرّحين من الخدمة العسكرية، والعاملين المُعينين من حزب البعث العربي الاشتراكي والمُفرّغين للحزب، وفق التفصيل التالي:
أولًا: فيما يخص العاملين المُعينين بموجب مسابقة المسرّحين من الخدمة العسكرية، يتم إنهاء عقودهم وتحال قوائم بأسمائهم إلى الوزارة التابعين لها، وفي قرارات أخرى يتم منحهم إجازة ثلاثة أشهر وفق الراتب القديم مع إحالة أسمائهم إلى الوزارة التابعين لها.
ثانيًا: فيما يخص العاملين المُعينين من حزب البعث العربي الاشتراكي والمفرّغين له، يتم منحهم إجازة ثلاثة أشهر وفق الراتب القديم وتحال قوائم بأسمائهم إلى الوزارة التابعين لها.
ثالثّا: أما العاملين الدائمين المُعينين بصفة ذوي شهداء فيمنحون إجازة ثلاثة أشهر وفق الراتب القديم وتحال قوائم بأسمائهم إلى الوزارة التابعين لها.
رابعًا: العاملين بموجب عقود مؤقتة والمتعاقد معهم بصفة ذوي شهداء أو بموجب مسابقة مسرحين فيمنع تجديد عقودهم.
هذا القرار شمل جميع مؤسسات القطاع العام في جميع أنحاء الجمهورية.
من خلال تواصلنا مع العديد من المتضررين اتضح لنا أن جزءًا كبيرًا من الشائعات التي تحيط بهؤلاء المستهدفين غير صحيحة؛ فهم عاملون كانوا على رأس عملهم وتحت تصرف مؤسساتهم لحظة صدور القرار، وأنهم لا يتقاضون أكثر من مرتب واحد وأن الوضع المعيشي لأغلبهم معدم، كما أن هناك بعض العاملين لا يمكن الاستغناء عنهم وتم استبدالهم بعاملين آخرين موالين للسلطة الحالية (مثال: الحرس القائمون على حماية مرفأ طرطوس واللذين تم استبدالهم بعناصر مسلحة تابعة لإدارة العمليات العسكرية).
إن غالبية العاملين المتضررين من هذا القرار هم من الفقراء، علمًا بأن غالبية الأسر السورية تحت خط الفقر، وحوالي 27% من السوريين يعيشون في فقر مدقع وفق تقارير البنك الدولي. كما وثقنا وجود مرضى بحاجة إلى علاج سواء من العاملين أو من أفراد أسرهم.
في تفنيد قرار الحكومة:
من البديهي أنّ اتخاذ القرارات الحكومية يستند إلى معايير أساسية تضمن حسن ملاءمته لظروف كل مؤسسة ولظروف الدولة ككل، وملاءمته للاستراتيجيات وللسياسات الحكومية المرسومة مسبقًا. كما يستند إلى معايير تحقق كفاءة تنفيذه والاستجابة له وتحقق استقرار المؤسسة وتعافيها. هذه المعايير تعتبر حجر الأساس لعملية اتخاذ القرار، وهي التكلفة، والوقت، والجدوى، والمخاطر.
كما تشترط عملية اتخاذ القرار اتباع خطوات متسلسلة بالتوازي مع مرعاة المعايير السابقة، فهل احترمت الحكومة الحالية حقيقةً شروط حسن اتخاذ القرارات؟
أولى خطوات اتخاذ القرار هي تعريف المشكلة بوضوح، ومشكلتنا هنا – وفق ادعاء حكومة تصريف الأعمال – أن مرتبات العاملين منخفضة جدًا بحيث لا تكفي لسد احتياجاتهم وأسرهم وهذه المشكلة الأساسية التي ترتبط بمشكلة فرعية وهي وجود بطالة مقنعة وأعداد كبيرة من العاملين المعينين ممّن هم ليسوا على رأس عملهم، وممّن يشكلون فائضًا عن حاجة المؤسسات، كما تدعي الحكومة بأنّ تعيينهم لم يكن إلا لتحقيق منافع شخصية غير محقة لفئة معينة أيدت السلطة السابقة.
إلا أن الحقيقة التي بدت لنا أن الحكومة السابقة ذات الطابع الاشتراكي انتهجت التوظيف في القطاع العام كوسيلة لدعم العائلات الفقيرة وخصوصًا أولئك المُعيني بصفة ذوي الشهداء من خلال توفير مرتب شهري بسيط يتراوح بين 20 إلى 25 دولار أمريكي يصرف لهم من موازنة الدولة لتمكينهم من توفير احتياجاتهم الأساسية وتفادي انقلابهم على السلطة التي زجّت أبناءهم في حربها، هذا من ناحية.
أمّا من ناحية أخرى فهناك شريحة واسعة من هؤلاء العاملين كانوا على رأس عملهم ويساهمون بشكل فعّال بتسيير أعمال المؤسسات التي ينتمون لها وإن كانوا من المسرحين من الخدمة العسكرية أو من أتباع حزب البعث العربي الاشتراكي.
أما الخطوة الثانية فهي تحديد الحل الممكن للمشكلة والبدائل المتوفرة، وهنا ارتأت الحكومة أن البديل الأول رفع مرتبات العاملين في القطاع العام 400% كخطوة أولى صرحت عنها في الأيام الأولى لاستلامها السلطة، وفي ذلك الوقت لم تتطرق لإعادة هيكلة المؤسسات وتقييم الموظفين، لكنها اصطدمت بعدم وجود موارد كافية لرفع المرتبات وعليه فتكلفة البديل الأول باهظة جدًا ممّا استدعى إعمال بديل ثانٍ.
فكان البديل الثاني تخليص موازنة الدولة من عبء شريحة من الموظفين اعتبرتهم مشمولين بما يسمى البطالة المقنعة والاحتفاظ بالحد الأدنى اللازم من الموظفين لتسيير أعمال المؤسسة ورفع رواتبهم. لكنها لم تدرس جدوى ومخاطر القرار الذي ستتخذه، واعتبرت أن البديل الثاني هو أفضل بديل لحل المشكلة وفي ذات الوقت صوّرت نفسها كصاحبة الحلّ السحري لمشكلة المؤسسات السورية المترهلة وبالتالي سارعت لتنفيذ القرار.
عقب صدور هذا القرار غير المدروس اتضح لشريحة واسعة من الشعب السوري رداءة القرار المتخذ وعدم جدواه والمخاطر المترتبة عليه، حيث انتُقدَ القرار منذ اليوم الأول لصدوره ومن أشخاص عاديين ليسوا في مراكزٍ قيادية.
ففي ظلّ عدم توافر ما يكفي من المساعدات الإنسانية المقدمة من الدول وفساد آليّة التوزيع، وفي ظل استمرار العقوبات على سوريا لا يمكن لهؤلاء العاملين المفصولين إيجاد مصدر دخل آخر لتأمين حاجاتهم الأساسية، إذ لا توجد فرص عمل، كما أنّ مستودعات الجمعيات الخيرية فارغة.
فضلًا عن ذلك فإن الإحالة إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والحصول على تعويض مقدر بأجر ثلاثة أشهر لم يشمل إلا شريحة من هؤلاء العاملين المتضررين، كما أنه ليس إلا إجراءًا مسكنًا في ظل عدم وجود حل حقيقي لظاهرة الفقر في سوريا وعدم توضيح مصير هؤلاء العاملين عقب انتهاء مهلة الثلاثة أشهر.
وبالنظر إلى الشريحة التي تم استهدافها بالقرار وهي شريحة من العاملين تدعي الحكومة بأن تعيينهم لم يكن إلا لتحقيق منافع شخصية غير محقة لفئة معينة أيدت السلطة السابقة (المسرحين من الخدمة العسكرية والحزبيين وذوي القتلى) فإنها قد استهدفت فئة كانت طرفًا في الصراع بشكل أو بآخر متجاهلة المخاطر التي يمكن أن تنشأ عن محاربة الناس بلقمة عيشها والتي يمكن أن تؤدي إلى ثورة مضادة أو حرب أهلية، فهي تستعدي بهذا القرار ما يقارب ثلث المواطنين السوريين الموجودين داخل البلاد. هذا فضلًا عن فتحها باب واسع لإقصاء ممنهج لفئة أعضاء حزب البعث العربي الاشتراكي الذين يشكّلون غالبية عظمى من الشعب السوري بحكم كون الانتساب للحزب الحاكم لم يكن اختياريًا في فترة النظام البائد.
ومازاد الوضع سوءًا إيلاء سلطة تنفيذ هذه القرارات إلى أفراد ينتمون إلى الطرف الآخر من الصراع ففي كثير من الحالات التي تم توثيقها كان الفصل شفهيًا تعسفيًا وترافق مع كيل اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال الأربعة عشرة سنة الماضية. ووصل في بعض الحالات إلى طرد العامل من المؤسسة من قبل أشخاص مسلحين يستخدمون ألقاب جهاديّة عند محاولته الاعتراض أو الحصول على قرار مكتوب.
كما اتّضح لنا عدم وجود تنسيق بين مسؤولي الحكومة الحالية وحتى المسؤولين في المؤسسة الواحدة؛ إذ قمنا بتوثيق صدور قرار فصل مع منح مرتب ثلاثة أشهر لعدة عاملين ثم فوجئنا بإعادة تكليفهم بالقيام بمهام معينة ضمن المؤسسة بعد عدّة أيام. وعند مراجعتهم المؤسسة لوضع أنفسهم تحت تصرفها وتنفيذ مهامهم، تم طردهم منها من قبل عنصر مسلّح يدير المؤسسة الحكومية – والتي يُفترض أنّها مؤسسة مدنيّة – باستخدام كنيته “أبو فلان” لا اسمه الحقيقي.
ماذا إذًا؟
إنّ كلّ ما سبق يتعارض بشكل صارخ مع أهداف الثورة السورية والعقد الاجتماعي الذي صاغه الشعب السوري منذ بداية تأسيس الجمهورية ونذكر مثالًا عليه ما ورد في دستور عام 1950 والذي ينص في ديباجته على ” إقامة العدل على أسس متينة حتى يضمن لكل إنسان حقّه دون رهبة أو تحيّز وذلك بدعم القضاء وتوطيد استقلاله وفي ظلّ حكم جمهوري ديمقراطي حرّ”، ” نشر روح الإخاء وتنمية الوعي الاجتماعي بين المواطنين حتى يشعر كل إنسان أنّه جزء من بنيان الوطن وأنّ الوطن في حاجة إليه”، “تحرير المواطنين من ويلات الفقر والمرض والجهل والخوف بإقامة نظام اقتصادي واجتماعي صالح يحقق العدالة الاجتماعية ويحمي العامل والفلاح، ويؤمن الضعيف والخائف، ويوصل كل مواطن إلى خيرات الوطن.”
نظرًا إلى أنّ الحكومة الحالية هي حكومة تصريف أعمال وليست حكومة انتقالية ولا حتى حكومة منتخبة فلا يحقّ لها سوى اتّخاذ القرارات الضرورية لتسيير الأعمال اليومية في المؤسسات وما يلزم لحفظ الأمن والسلم الأهلي لتوفير بيئة ملائمة للتحضير لانتخابات حرّة ونزيهة، ولا يحقّ لهذه الحكومة إعادة هيكلة مؤسسات القطاع العام أو الوزارات، كما لا يحق لها أن تتخذ قرارات قد تعود بآثار خطيرة على السلم الأهلي ووحدة البلاد ولا يحق لها أن تًبرم أي اتفاقيات أو عقود دولية أو محليّة ترهق خزينة الدولة في المستقبل أو تقيّد الحكومة المنتخبة لاحقًا.
على حكومة تصريف الأعمال أو أي حكومة انتقاليّة مستقبليّة أن تستمر بالعمل بالقوانين المعمول بها سابقًا في سوريا كونها لا تمتلك سلطة التشريع قبل عقد انتخابات برلمانية حرّة ونزيهة. وفي حال ارتأت أنّ هناك قرارات جائرة أو سلوكيات فاسدة اتّبعها النظام البائد، فلا يجوز لها استبدالها بقرارات أخرى غير مدروسة وجائرة، بل يجب عليها استشارة الموظفين المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والخبرة لدراسة أفضل البدائل.
عليه، نطالب حكومة تصريف الأعمال إلغاء القرارات السابق ذكرها وغيرها من القرارات التي اتّخذتها خلافًا للصلاحيات المنوطة بها في الدساتير السورية السابقة والعرف والقانون الدوليين
إنّ نقل الظلم والجور من فئة إلى أخرى ليس حلّاً للمشكلة، بل سيجرّ البلاد نحو حرب أهليّة، وإنّ التعميم في إصدار القرارات مع فتح باب الاعتراض غير كافٍ لتحقيق الإنصاف والعدل خصوصًا في ظلّ وجود شلل كامل بالمؤسسات القضائية والأمنية والرقابية وتسليمها لرجال دين غير حائزين على شهادة جامعية في الحقوق، وفي ظلّ إصدار قرارات وزاريّة غير مسؤولة تنطوي على جهل بأبسط المصطلحات القانونية المعمول فيها في سوريا ومثال ذلك القرار (40) الصادر عن وزير العدل في 08 كانون الثاني 2025.
المكتب القانوني للحركة المدنيّة السوريّة