مقالات الأعضاء

فوضى المفاهيم ومعادلاتنا الصفرية…. ومخلفات نظام الاستبداد

مر 13 يومًا على سقوط نظام الإرهاب الاسدي مخلفًا وراءه 54 عامًا من قمع الحريات، وكم الأفواه وممارسة الإجرام الممنهج والوحشية، منذ 2011 وبالإضافة لما سبق، تم وبشكل مباشر قتل واعتقال وتعذيب كل من ثار عليه وعارضه، بل وحتى كل من خالفه، محققًا بذلك هدفًا قريب المدى يتمركز حول إبادة أصوات الحرية وحماية نظام الرعب ومملكة الخوف. ولم يتوقف عند ذلك، بل وكسياسة منهجية منذ استيلاء الأسد على الحكم في 1970 عمل على إحداث خلل بين أطياف المجتمع السوري، كهدف بعيد المدى وذلك تحقيقًا لسياسة فرّق تسد الكلاسيكية، حيث ساعده ذلك في حرف أنظار المجتمعات والمكونات السورية المختلفة عنه وعن أفعاله إلى بعضها البعض، حيث أصبحنا في مواجهة بعضنا عوضا عن اجتماعنا عليه لإدانة أفعاله. هذا الخلل أصاب بشكل مباشر جذور دعائم ما يكوّن الدولة المدنية أو الامة والمجتمع السليم. مع الاسف، نجحت منهجية التخريب المنظم في خلق فجوات عميقة بين جميع مكونات الأرض السورية سواء على نطاق الدين والطائفة أو العرق أو حتى اختلاف الثقافات والايديولوجيات، مستخدمًا بذلك مفاهيم ومصطلحات، وصمة العار والخيانة والعداء والخوف من الآخر، مطبقًا ذلك على أي أحد لا يوافق نهج القيادة الحكيمة راعية مصالح مجتمع الفتات كنتيجة لاحقة لسنوات العزلة الفكرية بين السوريين. مع الأسف لم يتوقف ذلك على مستوى شعب وقيادة بل وتعداها بنجاح إلى تفاصيل أدق وأعمق تأثيرًا، شملت أطياف المجتمع السوري حيث دخلت طريقة التفكير والتعاطي هذه في جميع مجالات حياتنا ونظراتنا لمن يخالفنا الرأي. وبشكل ما جزء كبير من طريقة تفكيرنا وأسلوب حياتنا اليومية ومعيشتنا أصبح مبنيًا على تراكمات الخوف والترهيب، محولًا إيانا إلى خراف خائفة من بعضها وتائهة وجوديًا ولكن مقادة لوجهتها الوحيدة.

بسقوط النظام وجد السوريين أنفسهم فجأة وبلا أي مقدمات للمرة الأولى وجه لوجه أمام بعضهم للمرة الأولى بدون أن يخيم عليهم شبح نظام الاسد! بعد أن كانت كل مجموعة منكمشة على نفسها في بقعة معينة ضمن بيئتها الآمنة بعيداً عن الآخرين بحيث سادت مبادئ ال (نحن) و(هم)، وكان ما يجمعنا هو خوفنا من الآخر وتشبثنا بمن يحمينا منهم بقوة سواء نظام أو غيره، واضعين أنفسنا موضع رعايا ضالة وليس مواطنين بحقوق وواجبات.  

محصلة الخلاص من سنين الظلام والقمع ليست فقط على صعيد سقوط طغمة الحكم الدكتاتوري ووقف العمليات العسكرية والسلام والامان، حيث تم تحقيق ذلك لدرجة معينة وهذا ما أفرح ملايين السوريين بتحريرهم من أنياب الإجرام، ولكن أيضًا على صعيد أمننا كشعب وأطياف متنوعة حيث سقطت إلى الأبد نظرية الإرهاب التي دعّم قواعدها حافظ وبعده بشار، والتي فحواها أنه بدوني سوف يذبح الشعب بعضه البعض وتحصل مجازر وتختفي هويات وتنطمس طوائف! بل على العكس، اظهر شعبنا مثال رائع على مدى وعيه بخداع النظام وحيله القديمة العفنة، وساد بشكل ما جو من الأمن والاستقرار ولم نعد نرى بعض كجزارين راكضين في الشوارع من غير هدى.

ومع ذلك، ليس بإمكاننا وليس من الحكمة تجاهل أنه ما زال هنالك بعض مخلفات نظام الاستبداد، والتي يصعب التخلص منها، وهي مع الأسف مخلفات طويلة المدى ومتجذرة لدينا خصوصًا وتحديدًا في نطاق تعاطينا مع الآخر الذي يخالفنا الرأي، وتحديدًا بما يتعلق بالايديولوجيات المطروحة حاليًا على طاولة السوريين والمتعلقة بمستقبلهم، فحيث كما ذكرت مسبقًا وجدنا أنفسنا أمام بعضنا البعض فجأة وبلا مقدمات ….. السني أمام العلوي والمسيحي أمام اللاديني والمدني أمام الإسلامي والنسوية أمام التقليدية والكردي أمام العربي وما إلى ذلك، كل ذلك يحدث وسط دوامة من المصطلحات وتفسيراتها المغلوطة وسوء الفهم الفادح بين الجميع، وكرد فعل جسماني طبيعي لا إرادي الكل يأخذ وضعية الدفاع المباشر المستعد للانقضاض أو الهروب ويغيب دور العقل مؤقتًا، ويبدأ التعميم والتخوين والتخويف الفكري مع بعض التعصب سواء الديني أو الايديولوجي، مع كل فكرة تطرح أو ايديولوجيا قد تخالف فئة معينة من الناس، إلى أن نصل لدرجة الاقصاء التام والصفرية في النتائج وعدمية النقاش كمحصلة لاختفاء تام لبيئة سليمة لتبادل الاراء والافكار. قد يعود السبب في ذلك (وهو الغالب) لسنين وأجيال من العذاب النفسي والعقلي والجسدي حيث برمجنا أنفسنا كآلية دفاعية على تحفيز فوري لخطوط الدفاع الجسمية والنفسية في حالات المواجهة مع الاخر (ولو حتى ضمن نقاش عادي ) حيث يكون التوتر، القلق، الغضب والكراهية هي ما يقودنا في اتخاذ القرارت أو كيفية التعاطي مع الآخر بدون المرور بعملية معالجة منطقية لما يحدث وإلى أي مدى نأخذ ذلك وأن مواجهتنا للآخر المختلف ليس بالضرورة هجوم محدق على حياتنا ويجب علينا الدفاع عن وجودنا وكياننا!  قد تكون ردة الفعل هذه عنيفة (ليس بالضرورة جسدية) على هيئة عبارات وجمل نريد منها أن تحمينا وتحمي معتقداتنا، ونظن أننا فعلنا حسنًا بذلك ولكن على أرض الواقع، هي فقط تظهرمدى ضعفنا الشديد والدفين والذي تعودنا على أن لا نخرجه بطريقة سليمة عن طريق الكلام المنطقي، بل بطريقة انفعالية دفاعية \ هجومية استقصائية مليئة بالغضب والكراهية، ونخرج كل ماسبق كرصاص حي في وجه أي شخص يتفوه باحرف شكلت عبارة أنا (أريد حكم اسلامي) أو (أنا علماني) أو أو. كل ذلك وبنسبة كبيرة يأتي من خوفنا الدفين من طمس الهوية باعتبارها من بقايا ما تبقى لنا، وعدم إتاحة مجال للتعبير عن أنفسنا بطريقة سليمة، ونحن بإدراكنا لذلك سوف نبتعد تدريجيًا عن حافة الهاوية الوهمية التي وضعنا فيها النظام، ونخرج سوية من دائرة ضحايا للنظام إلى ناجيين من هذا النظام وناجحين في تعاطينا مع بعضنا. أما إذا لم ننجح بذلك فسوف نشهد، وقد بدأنا فعليا نشهد عودة لمصطلحات وعبارات كان النظام نفسه قد استعلمها ليس فقط عند انطلاق الثورة في 2011 وما بعد، بل حتى منذ اغتصابه للسلطه في السبعينيات كعبارات أعداء الثورة! والتخوين والاندساس بالاضافة لانتشار الموزعين الحصريين لشهادات حسن السلوك الثوري وايضا انتشار عبارات اين كنتم عندما…؟ او لماذا الان وليس قبل…؟ لماذا لم تجرؤ على ذلك عندما كان النظام …؟  وكأن معجم لغة السوريين لا يحتوي سوى على مجموعة الألفاظ البعثية القمعية، بشكل ما قد يكون ذلك منطقيًا باعتبار أجيالنا الحالية والسابقة تربت في مدارس البعث والفاشية التي قامت بإعدادنا كأجيال لا تنفع للنقاش المفيد متعدد الخيارات والنتائج، وإنما محصورين ضمن خيارين لا ثالث لهما أثناء المواجهة النقاشية….إما معنا أو عدو لنا! بدون أن يكون بين أيدينا أي وسائل حوارية ولا أسلحة فكرية بل كنا مجردين من أي شيئ سوى فقط أسس لمعادلات نتيجتها صفرية دائمًا نستخدمها عند حصارنا في أي نقاش والتي لا تمثل سوى إعدامنا فكريا للآخر، فمستوى استيعابنا للنقاش هي إما أسود أو أبيض، 1 او 0 معي أو ضدي. و لو أردنا أمثلة على ما لدينا من بعض المعادلات الصفرية الجاهزة والمغلفة والتي يتم ترديدها بلا أي وعي، ونقوم بإطلاقها في وجوه بعضنا كل ما استدعى الأمر، وكمثال عن ذلك:
نظام الأسد كان يقول عن نفسه أنه علماني فبالمحصلة كل علماني يعني تسلط واستبداد ومحاربة أديان، ونتيجة ذلك أي أحد ينادي بالعلمانية يتم وصمه بعار نظام الأسد البائد!! نفس المعادلة تطبق على الإسلام، يرى البعض أن داعش بكونها إسلامية فنتيجة ذلك أي مسلم يرى أن الحكم في سوريا يجب أن يكون إسلامي تحول الى داعش بطريقة ما!! النظام ادعى حماية الأقليات وكان هو المستبيح الأكبر للاقليات، والنتيجة الآن أي أحد ينادي بحقوق الأقليات (مع تحفظي على ما يعني ذلك) يتم إلصاقه بتهمة ابتزاز حقوق الأكثرية!! وكتاب معادلاتنا الصفرية يحوي عدد لا نهائي من هذه المعادلات، بنفس الوقت نرى أن هذا الكتاب له المساحة الاكبر من مكتبتنا التي ورثناها عن مملكة الخوف والإرهاب الاسدي.

بكل وضوح، من الجيد أن نعترف أننا ما زلنا مشوشين بخصوص الاستماع للآخر وكيفية الرد، وأن ما يتفوه به شخص ما لا يعني أنه ممثل ووكيل حصري لما يقول، ويصبح بذلك ما يردده حكرًا عليه فقط ويتم حصر معناه ضمن ما يمارسه هذا الشخص!! إدعاء الأسد السابق بالعلمانية لا تعني أن هذه هي العلمانية والمدنية، فهو فقط استخدم هذه المصطلحات (أو روّج لها )  كمبرر لتدعيم دعايته بمدنية الدولة السورية تحت حكمه وحماية الأقليات، وكان بنفس الوقت يدعي حماية أصول الإسلام السني عن طريق تقربه من مشايخ البلد وفتحه معاهد الأسد لتحفيظ القران!! فلو أنه فعليا مارس العلمانية والمدنية بطريقة سليمة فلن نراه متدخلًا في قضايا الدين ومستخدمًا اسمه في معاهد دينية أو مجمعًا لأفراد طائفته وتنصيبهم حوله وفي قيادات الدولة مهمشًا باقي المكونات! بل كان ترك الدين لأهله فقط  ولكنه متملق ليس إلا، متملق أظهر نفسه كحامٍ للدين والقران ليكسب المسلمين ومتملق مدّعٍ بأنه علماني ليظهر نفسه كحامٍ لمكونات الشعب المختلفة وتملق أيضا لأبناء طائفته متظاهرًا أنه حاميهم من سواطير أعدائهم الوهميين، وكمحصلة نرى أنه كنصير للمسلمين أجرم بهم، وكمدعٍّ للعلمانية شوّه مفهومها تمامًا وكحامٍ للعلويين كان هو الذي ذهب بهم إلى الهلاك، ونرى كل ذلك كنتيجة واضحة الآن أن أي شيئ كان قد لمسه نظام الأسد قد تحول لكيان ممسوخ ومشنّع به.   

لا ضير في أن نقول أننا لسنا متأكدين من معنى المدنية أو العلمانية أو نستوضح من المسلمين أكثر عن دينهم، ومن المسيحين عن أطيافهم وعن باقي المكونات تطلعاتهم! يجب دائمًا أن نطلب مساعدة بالشرح بعد أن شوه نظام البعث كل مفاهيمنا، وأن نتذكر أن الفرد بأفكاره هو بنية المجتمع الأولى وكل شخص متفرد عن الآخر بأرائه ونظرته للمستقبل, نظام البعث حاول تكويمنا ضمن حظائر فكرية مغلقة حتى يتم إملاء ما تريده القيادة وما علينا سوى السمع والطاعة ولا يجوز بل ومحرم علينا استخدام أدوات الاستفهام مثل لماذا و كيف ولأي سبب؟!! وحرّم علينا الحوار والنقد والاستماع والتحليل واستخلاص مخرجات بناء على معطيات، نجاحنا بإسقاط النظام ليس فقط بإسقاطه كجيش ومخابرات ومؤسسات بل بإسقاطه كنمط تفكير وأسلوب حياة اتبعناه لا إراديا، ببساطة … لأنه حرمنا من البديل والآن هو وقت البديل …. أو البدائل.

اذا أزحنا فلول النظام البائد المعكرين على صفو وجو الحرية السائد من مشهد التجمعات المدنية، سوف نرى أن مطالب الشباب وما ينادون به هو حق لكل شخص ولكل سوري، والمدنية تضمن وتصون بمبادئها حقوق أي مواطن مهما كانت عقيدته وتوجهاته ضمن حدود حقوق الانسان. ورأينا أن تعامل السلطات مع نداءات المطالبة بالمدنية والعلمانية موفق لحد ما على مستوى حكومة تصريف أعمال، ويظهر رغبة جادة بالاستيعاب والجهوزية للحوار مع الآخر وهذا هو الوضع الطبيعي والعادي وأظهرت السلطات الحالية قدر كبير من الوعي والتفهم، ولكن ارتدادات هذه المطالبات على مستوى المجتمع كانت متباينة جدًا!! وجود المؤيدن السابقين لنظام الاستبداد وجو الريبة الذي كان سائدًا بسبب تملق بقايا النظام ومحاولتهم اللحاق بركب (الحرية)، بين المنادين بالمدنية والعلمانية لا يعني أن جميعهم كذلك ولا يعني استخدامهم لعبارات العلمانية والمدنية أن نقوم بلصق هذه العبارات بنظام الأسد ومن والاه! ويجب ان لانسمح لأي أحد حامل لأجندة محددة قاصدًا بها طمس وإقصاء الآخر أن يستخدم هكذا ذرائع (كتواجد فلول مؤيدي النظام)  لإخفاء وإلغاء ولصق وصمة عار بطالبي المدنية من المشهد السياسي والاجتماعي. يجب أن لا ننسى أن جزء كبير من أوائل معارضي النظام منذ البداية ومن قدموا أغلى ما لديهم في محاولات الخلاص من الأسد هم من انصار الفكر المدني البحت! وهم الذين حرص الهارب على مسحهم تمامًا ومباشرة من المشهد المعارض، لأنهم هم الممثلين الحقيقيين عن المدنية ومعناها وليس كما كان يروج لها هو وأبوه من قبله و كانوا هم القادرين على فضح انتهاكاته وعيوبه.  فيجب أن لا نسمح لفتات النظام بأن يعكروا صفو النسيج الجديد من التفاهم والحرية الذي يقوم بنسجه السوريين الان. مستقبل بلدنا مرهون لدرجة كبيرة بمدى أن نتعلم الفصل بين المفاهيم والمتشدقين بها، ولا نسمح لقراراتنا العاطفية المتسرعة ورغبتنا بإصدار الاحكام الفورية (لسهولة ذلك) بأن تعمي على بصائرنا لأنه وبكل بساطة فالطرف الآخر قد يكون لديه نفس السلاح، تقول العلمانية هي من مخلفات النظام الأسدي، فيقول لك لا نريد الإسلام لأننا لا نريد تطرف إسلامي يودي بنا لمكان لا نريده جميعًا!! وسندخل في متاهة من الترهات قد لا نخرج منها بسهولة! وهذه تحديدًا ما تسعى إليه فلول الهارب.

 انفتاحنا على بعض قد يكون حقل خصب للكره والحقد والغل والجهل، وبنفس الوقت لو تم استثمار ذلك بالطريقة المثلى فقد يقودنا لمصافي الدول المسالمة والمجتمعات المتعايشة بأمن بخلاف كل خلفية كل شخص وما يحمله من ثقافات. الآن  تعتبر اللحظة الأمثل لخلق بيئة الحوار السليم بيننا حيث لا توجد جدران خوف وعزلة ولا بنادق ومدافع مكننة لأفواهنا وبإعادتنا لصياغة طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع بعضنا البعض خصوصًا بعد انهيار مملكة الخوف والرعب. إدارك أن لدينا مشكلة يعتبر أولى الخطوات نحو التغيير. تجاهل أن لدينا مشاكل واختيارنا للخيارات الأسهل لن يزيدنا سوى غرق وانعماس بوحل الكراهية وفوضى ما نريد فهمه من الحريات بما يناسب مفاهيمنا نحن وليس هم.

الحركة المدنية السوريّة | اللجنة الثقافيّة
محمد قبّاني (ناشط حقوقي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى