سوريا دولة الفساد (12): الآثار السياسية للفساد
الآثار السياسية للفساد:
يرى البعض أنّه من الخطأ الافتراض بأنّ نتائج الفساد سلبيةٌ دومًا، ذلك أنّ الحكم على الفساد ينبغي أن يتم في ضوء ما يمكن أن يكون عليه الواقع وليس في ظلّ نموذجٍ مثالي للمجتمع، فالفساد لا يضر دومًا بتنمية المجتمع بل يمكن في بعض الحالات أن يساعد في بلوغ بعض الأهداف الوطنية ويُشكل حافزًا للنمو في ظلّ ظروفٍ محددةٍ، كما يرى بعض خبراء الاقتصاد أنّ هناك مستوًا معينًا للفساد تصبح فيه تكلفة محاربته أعلى من تكلفة بقائه. إلّا أنّ الباحثة لا ترى أنّ للفساد أيّة آثارٍ إيجابيةٍ، ولكن تقتضي منها الموضوعيّة أن تورد كلا وجهتي النظر، وعلى ذلك تعرض الآثار الإيجابية للفساد سواء كانت سياسيةً، اجتماعيةً، إداريةً، قانونيةً أم اقتصادية.
الآثار الإيجابية:
للفساد آثارٌ إيجابيةٌ على المستوى السياسي حيث يرى البعض أنّه يساهم في تحقيق الاستقرار السياسي للنظام فيُجنبه الانقلابات والأزمات؛ لأنّه يخلق فئةً من المستفيدين يعملون على حمايته لضمان مصالحهم، ولأنّه يساعد الحكومة على احتواء المعارضة السياسية والنقابية عن طريق شراء الذمم بمنح شخصياتٍ حزبيةٍ بارزةٍ وشيوخ العشائر مراكزًا قياديةً مهمةً تمكنهم من اقتسام الثروات مع الحاكم. ويُردّ على هذه المبررات بأنّ الاستقرار السياسي الحقيقي يتطلب قاعدةً صلبةً من الصدق والشفافية لضمان استمراره، وأمّا المبررات التي تمّ سوقها فتؤدي إلى زيادة التوترات الاجتماعية وتعزز الشعور بالظلم والقهر لدى عموم الشعب.
الآثار السلبية:
يشكل الفساد خطرًا حقيقيًا في المجال السياسي بالنظر إلى ما يخّلفه من آثارٍ لكونه يُفقد النظام السياسي شرعيته، فلا يكون نظام الحكم شرعيًا إلّا عندما يقبل المواطنون مؤسسات الحكم التنفيذية والتشريعية والقضائية قبولًا طوعيًا يمنح الحكام حقّ ممارسة الحكم عليهم، وبالتالي فإنّه يتعين على أيّ نظامٍ يريد التمتع بشرعيةٍ حقيقيةٍ أن يحافظ على المساندة الشعبية المبنية على الاعتقاد بقدرته على التعامل مع المشكلات بحياديةٍ ونزاهةٍ، وعليه يفقد النظام السياسي شرعيته متى تصرفت قياداته بطرقٍ ملتويةٍ وتورّطت بجرائم فساد، حيث يفتح الباب أمام الاضطرابات والثورات، ومن أمثلة ذلك فضيحة ووتر-غيت التي أطاحت بالرئيس الأمريكي نيكسون، والثورة ضد شاه إيران وزين العابدين في تونس، والمظاهرات الكبيرة التي اجتاحت الوطن العربي.
فالفساد هو العنصر الأساسي في إحداث التغييرات السياسية وهو السلاح الذي يُشهر في وجه الحاكم كمبررٍ للدعوة إلى التغيير، فلا يجد الشعب أمامه سوى الثورة للتنفيس عن معاناته، فتحدث الاغتيالات والتصفيات الجسدية من جانب الحكومة والمعارضة، وعليه يؤدي الفساد إلى شيوع الفوضى والاضطرابات السياسية، فالفساد يصاحبه لغة القوة وسياسة فرض الأمر الواقع كوسيلةٍ عمليةٍ لانتزاع السلطة، فتستخدم الحكومات الفاسدة السجون والمعتقلات والتعذيب لمنع أيّة احتجاجاتٍ شعبية، وتزوّر إرادة الشعب في الانتخابات بل وتعتقل من يُتوقع فوزهم إذا تعذر التزوير، مستخدمةً إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية لتقنين هذه الانتهاكات.
كذلك عندما يصبح الفساد متغلغلًا في الدّولة تصبح المناصب والوظائف بحسب موقعها من الأصول الثمينة، إذ يصبح لكلّ وظيفةٍ ثمنًا بحسب ما تُدرّه من ريع، فمن يجلس في المكاتب قد لا ينال ما يناله من ينزل إلى مواقع العمل. وتوجد في بعض البلدان سوقٌ نشطةٌ لمناصب الحكومة التي تدرّ إيرادًا جانبيًا على شكل رشاوى ومكافآت.
إضافةً إلى الأثر السابق فللفساد أثرٌ سياسيٌ آخرٌ يتجلّى في تشويه المناخ الديمقراطي في المجتمع، فعادةً ما يقوم المسؤول الفاسد باستخدام أموال الفساد في شراء أصوات الناخبين لينجح بالدخول إلى البرلمان، ويتمتع بالحصانة التي تمكنه من الاستمرار في ممارسة فساده، وينطبق هذا أيضًا على دخوله في المجالس الشعبية والمحلية والنقابات والوزارات والهيئات السيادية بل حتى توليه وظائف في أجهزة الأمن والعدالة الجنائية، حتى أنّ الفاسدين يحاولون زرع أعوانٍ لهم في الصفوف الثانية والثالثة كي يضمنوا لهم الحماية عند خروجهم من السلطة. وما سبق كلّه يؤدي إلى ضعف المشاركة السياسية نظرًا لتقلص دور الأحزاب السياسية وإضعاف قوة المعارضة وهيمنة الحزب الحاكم، فيمتنع المواطنون عن المشاركة في العملية السياسية لعدم ثقتهم وقناعتهم بنزاهة المسؤولين والمؤسسات وأجهزة الرقابة، فتقتصر بذلك المشاركة السياسية على الجماعات التي تملك الثروة والقوة التي تمكنها من إقامة علاقاتٍ خاصةٍ مع القيادات السياسية والإدارية.
وخطورة الفساد السياسية لا تتجلّى فقط بإضعاف الدولة من الداخل وإنّما إضعافها تجاه الخارج أيضًا؛ فمواجهة الضغوط الخارجية يرتبط بصلابة الوضع الداخلي الذي يستند إلى قاعدة المشاركة الواسعة في تحمّل المسؤولية وحُسن الأداء الحكومي، ولكنّ الفساد يؤدي إلى انكماش المشاركة الشعبية في الحكم وتحمل المسؤولية، ويؤدي إلى عزوف أصحاب الكفاءات عن تولي المناصب، وتهافت الطامحين لتوليها من أجل تحقيق المنافع وإن قادهم هذا إلى الانحدار بمستوى الأداء الحكومي والتنازل والتفريط بمصالح الوطن لصالح جهاتٍ خارجية.
سلسلة مقالات مقتبسة من رسالة ماجستير للناشطة الحقوقية لمى اللبواني