مقالات الأعضاء

سوريا دولة الفساد (10): أسباب تفاقم الفساد في الدول العربية (1)

سادسًا: أسبابٌ أخرى لتفاقم الفساد في الدول العربية:

إنّ الحال المؤسف الذي وصلت إليه معدلات الفساد العالية في البلاد العربيّة يعود إلى مجموعةٍ من الأسباب تُضاف إلى الأسباب الواردة أعلاه، وهي:

        1- أسبابٌ تتعلّق برجال الدين:

إنّ للوازع الديني أثرًا كبيرًا على العادات والتقاليد في المجتمع العربي، الذي يلتزم إلى حدٍّ كبيرٍ بقواعد الدين في حياته اليومية – وذكر قواعد الدين الإسلامي لا يعني أنّ مثل هذه القواعد غير موجودة في بقية الأديان- فالكثير من العلماء يفتي بأنّ معصية الحاكم من معصية الله، إمّا خوفًا من بطش ولي الأمر أو رغبةً في التودد إليه. فطاعة الحاكم في كلّ ما يأمر ودون نقاشٍ أو تفكيرٍ تكون من التوقير، وبعض علماء الدين هم الذين أكدوا هذا المفهوم في أذهان العامة من الشعب فحّرموا التظاهر ضد الحاكم، ولا يقتصر ذلك على الحاكم بل امتد ليشمل رئيس أيّة مؤسسة سواء كانت حكوميةً أو خاصة، فاعتراض المرؤوس على ما يفعله رئيسه حرام. لذلك مال غالبية الشعب إلى الخضوع والخنوع وطاعة الحاكم مهما فعل في البلاد، مع أنّ الأديان ومنها الإسلام أجازت الاعتراض على قرارات الحاكم، حتى أنّ الإسلام وضعه في مرتبة الجهاد الذي هو أعظم الطاعات التي تُقرب العبد لربه، كما جاء في الحديث الشريف « إنّ من أعظم الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطانٍ جائر»، فالإسلام براءٌ ممّا يُفتي به هؤلاء. وتعود أصول هذا الفكر الذي يسود العالم الإسلامي إلى الفترة التي أعقبت نهاية الخلافة الراشدة، إذ ظهرت كتاباتٌ سياسيةٌ لتواكب التحوّل الصريح نحو المُلك الجبري وتسعى لتقنين واقع الحكم القهري وإعطاءه الشرعيّة، أُطلق عليها فيما بعد الآداب السلطانية نظرًا لارتباطها بالسلاطين، وكان روّادها هم من الكتبة والعلماء الذين سعوا لخدمة البيروقراطية المركزية بشتى الطرق، حتّى وإن مسّ ذلك بجوهر العقيدة. وكانت هذه الكتابات تفرض رؤيا دينية على الشأن السياسي، فتمنع الإنسان حتى من حقه في الحُلم بنظامٍ بديلٍ للنظام الظالم، ومنها قول أحمد بن حنبل: « من غلبهم بالسيف حتى صار خليفةً، وسُميّ أمير المؤمنين، لا يحلّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمامًا عليه، برًّا كان أو فاجرًا فهو أمير المؤمنين». وقول أبو الحسن الأشعري: « ومن ديننا أن نصلي خلف كلّ برٍّ وفاجرٍ ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة ». وكذلك الفارابي يرى أن ّ رئيس المدينة الفاضلة هو الذي ينفرد وحده بتدبير أمورها؛ فليس هناك أيّ إنسانٍ أو هيئةٍ أخرى يمكنها أن تستقطع جزءًا من سلطانه، فهو الدستور له أن يدبر أمور الدولة كيفما شاء، والتشريعات الصادرة منه مُستمدة من الوحي الإلهي المباشر الذي يفيض من الله إلى العقل.

        2- العادات والتقاليد العربيّة وصبر الشعوب العربيّة على الفساد:

          إنّ الأفراد في المجتمعات العربية يجدون أنفسهم ملزمين بالتقارب والتزاوج والتضامن؛ إذ ينتظمون في عائلاتٍ وعشائرٍ وقبائلٍ ينصرون بعضهم البعض في السرّاء والضرّاء، ويتفقون على مجموعةٍ من العادات والأعراف يستقرون عليها ويتناقلونها جيلًا بعد جيل. ومعروفٌ لدى هذه المجتمعات أنّ « الفرد مع أخيه على ابن عمه، ثم هو وابن عمه على الغريب»، وفي حالة الفساد يكون الغريب هنا هو المواطن الذي يشارك هذا الفرد بالعيش والعمل والسكن والمصير، فيقدم أخيه وابن عمه وبقية أقاربه على الغرباء من المواطنين فتصبح هذه العلاقات والانتماءات بمثابة عشٍّ ينتعش فيه الفساد. أمّا المجتمعات الغربية فتختفي فيها هذه الروابط، لذلك تكوّنت لديها الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والجمعيات كبديلٍ للتضامن، والتي تساهم في تكوين العقل الجمعي لأعضائها فتُفقدهم إلى حدٍ كبيرٍ حريتهم عند اتخاذ أيّ قرارٍ كقرار مساندة أفرادٍ معينين أو جماعاتٍ معينةٍ  ممّا يحدّ من انتشار الفساد.

          3- انتشار الأميّة والجهل:

إنّ الإحصائيات المتوفرة تدل على أنّ نسبة الأميّة في الدول العربية عاليةٌ جدًا، فوفقًا لبيان المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لعام 2020، بلغ عدد الأميين في الدول العربية 75 مليون أميّ، من أصل 377 مليون نسمة تسكن الوطن العربي.  وفي دراسةٍ قامت بها وكالة الاستخبارات الأمريكية عام 2014، تبيّن أنّ أنظمة التعليم في العالم العربي تحتاج إلى حملة تغييرٍ جذري، من خلال زيادة المعلمين والارتقاء بنوعية التعليم، وتوظيف الطرق التكنولوجية، والحدّ من العوامل التي تتسبب بترك مقاعد الدراسة مبكرًا. ومن المعلوم أنّ انتشار الأميّة وانحدار جودة التعليم يُعيق التطور الاقتصادي خاصةً في ظلّ عالمٍ يتطوّر بسرعةٍ عاليةٍ. كذلك من المعلوم أنّ قيادة الشعوب الجاهلة أسهل بكثيرٍ من قيادة الشعوب ذات الأغلبية المتعلمة، لذلك يسعى الحاكم في أغلب الدول العربية إلى إشغال الشعب بأيّ شيءٍ غير السياسة والقرارات الحكومية والتطورات العالمية لينجو من انتقاداته، ويشجع رجال الدين المتطرفين لكي يدعموا أفعاله الفاسدة بصرف نظر العامّة عن مواكبة التقدم العالمي إلى أمورٍ تافهةٍ تمس الحلال والحرام في المسائل اليومية البسيطة كقيادة المرأة للسيارة.

         4- النظم التسلّطيّة وحكم العسكر:

إنّ معظم الدول العربية تمرّ بفترةٍ انتقاليةٍ تمثل أرضيةً خصبةً للفساد، حيث تشهد نموًا سريعًا يدعمه ظهور مصادرٍ جديدةٍ للثروة والسلطة، ولا زالت تحت تأثير القوى الاستعمارية في مرحلة ما بعد الاستقلال، كما تعاني من غياب النموذج الديمقراطي وأزمة القيادة السياسية مع قلة الأحزاب السياسية وضعفها إن وجدت، فضلًا عن القيود المفروضة على الحريات المدنية والمنافسة السياسية، فمعظم هذه البلاد قائمة على الحكم الاستبدادي، حيث تكون السلطة مطلقة في يد فردٍ واحدٍ لا يتقيّد بالدستور والقوانين، وله القدرة من خلال الحزب الحاكم على تغييرها لتطابق هواه، فالحكومة تقوم على تزوير الانتخابات وتسخير القانون للأعمال الفاسدة وحماية الفئة الحاكمة، فالسلطة التشريعية تهلل وتصفق للحاكم، والسلطة التنفيذية تنفذ ما يروق له، والسلطة القضائية ترتشي وتحكم لصالحه، والدستور يُبدل ويُغير ليناسب مقاسه، والخلافات تُحل عن طريق الزج بالسجون أو القتل، ولشدّة الضغط على المواطن العربي خلقت عنده الرغبة في حماية نفسه وذويه، وجراء ضعفه وقلة حيلته يلجأ أمّا إلى السكوت والخنوع أو يلجأ إلى النفاق ومدح السلطة الحاكمة، والدعاء لها والتضحية من أجلها، وهذا أسفر عن تمادي السلطة في ظلمها وفسادها.

سلسلة مقالات مقتبسة من رسالة ماجستير للناشطة الحقوقية لمى اللبواني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى