مقالات الأعضاء

العلمانية (12): موقف الإسلام من إنشاء دولةٍ دينيّة (2)

لم تكن قضية إقامة الدولة هدفاً للإسلام ولكن كانت أحد منتجاته الجانبية الحتميّة، فلم يتحدث عن السياسة ولم يقدم رأيه فيها لأنّها تعني المقابل للوحي والمعرفة الدينية باعتبارها مرتبطةً بالعقل والحنكة والحيلة والخدعة كما هي الحرب.

إنّ تجاهُل القرآن للسياسة والدولة هو ليس من قبيل الصدفة بل هو نابع من إعطائه الأولوية للدين والروح بالمعنى الإرادي الاختياري الباطني كوعاء للرسالة التي جاء بها، فالدولة تُعتبر بنظر الإسلام تجسيداً للتنافس على الدنيا والصراع في سبيل المصالح والمنافع والمكاسب الفانية، ومصطلح الدولة الإسلامية هو مصطلح مبتدع حديث، نشأ نتيجة تأثّر الفكر الإسلامي المعاصر بالفكر الحديث السائد. لذلك يُلاحظ أنّ القرآن لم يعد المسلمين بدولةٍ ولا أثار حماسهم بالحديث عن منافعها وخيراتها، ولكنه وعدهم بالجنة والرضا الإلهي والمغفرة، ولم يطلب منهم أن يحكموا الآخرين بل طلب منهم تبليغ الرسالة والتقوى ومخافة الله، ولم يعلّمهم علوم السياسة والحرب وتشييد الدول والسلطنات ولكن علّمهم مبادئ الحياة الجماعية والتضامن الروحي، كما لم يخاطب القرآن المسلمين باعتبارهم دولة وإنّما باعتبارهم أمّة. ففي المنظور الرباني القرآني لم يكن للدولة مكان، بل كانت الدولة ترمز للحكم الظالم والمتسلط والذي لا رسالة له سوى البقاء، فكانت فكرة السلطان والدولة مرتبطةً لدى المسلمين الأوائل بفكرة القهر والجبروت والأمم البائدة والهالكة كقوم عاد وثمود وفرعون وإرم، فالمسلمون كانوا يرون التنظيم الاجتماعي هو ذلك التنظيم الذي يقوم على الإيمان والأخلاق والدين وليس هو التنظيم الذي يقوم على القسر الذي تمارسه الدولة.

هذا كلّه بالنتيجة سيمكّن المسلمين من وراثة الأرض أي وراثة الحضارة وليس الملك، كما سيمكنهم من الاندراج في التاريخ العالمي كفاعلين رئيسيين، وسوف يحفظهم من خطر الانطواء على دولةٍ والانغلاق على نظام حكمٍ كما حدث مع بني إسرائيل، ولو كان القرآن قصد إقامة دولة وكيان سياسي منظّم للجماعة، لأخضع الدين للدولة وجعل بناء الدولة مقصد الدين وغايته، والذي كان سيؤدي إلى تأسيس دولةٍ إلهية دينية بالمعنى الحرفي للكلمة تفرض الدين وحكم الله بالقوة والترهيب ومن ثمّ لانتفت الحاجة للبعث والحساب ويوم الدين، ولكان النبي محمد جابياً لا هادياً، ولأصبحت النبوة قيادةً سياسيةً أي جبروتاً بدلاً من هدايةٍ روحيةٍ ووحيٍ ربانيٍ، ومنه فالإسلام لم يؤسس لسلطة قهرية تستمد شرعيتها من الدين.

انقسم علماء الدين الإسلامي بين من يرى أنّ تنصيب خليفةٍ للمسلمين أمرٌ واجبٌ إذا تركه المسلمون أثموا كلّهم، ومن يرى أنّ تنصيب خليفةٍ للمسلمين هو أمرٌ اختياريٌ وليس واجباً لا بالعقل ولا بالشرع وأبرزهم الخوارج وحاتم الأصم من المعتزلة.

ويفنّد علي عبد الرّازق في كتابه ” الإسلام وأصول الحكم ” الحجج التي يسوقها من يدّعون أنّ تنصيب خليفةٍ للمسلمين أمرٌ واجبٌ، فمن أدلّتهم:

أولاً: إجماع الصحابة والتابعين؛ لأنّ أصحاب الرسول محمد عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر وتسليم النظر إليه في أمورهم، وهذا ما جرى في كل عصرٍ بعد ذلك، فاستقر إجماعهم دالاً على وجوب نصب خليفة.

وفي هذا الصدد يقول عبد الرّازق أنّه لا يمكن المخالفة في أنّ الإجماع حجّةٌ شرعيةٌ، ولكن في مسألة الخلافة لا يوجد أيّ مسوّغٍ لقبول الإجماع فيها. فمن الملاحظ في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أنّ العلوم السياسية كانت الأسوأ حظاً والأضعف وجوداً فلا يوجد لهم مؤلفات في أصول السياسة أو أنظمة الحكم إلّا ما ندر رغم كثرة الدواعي والأسباب التي تدفعهم إلى البحث الدقيق في هذا النوع من العلوم، ورغم أنّهم كانوا مولعين بعلوم اليونانيين وفلسفتهم حتى أنّهم لقّبوا أرسطو بالمعلّم الأوّل، وكان اليونانيون مشغولون كثيراً بهذا النوع من العلوم.

وهناك سببٌ آخر أهم يظهر منذ تولّي الخليفة الأوّل أبي بكر الصدّيق هذا المنصب، حيث كان مقام الخلافة الإسلامية وحتى يومنا هذا عرضةً للخارجين عليه والمنكرين له، فلا يكاد التاريخ الإسلامي يخلو من خليفةٍ إلّا عليه خارج ولا جيلاً من الأجيال مضى دون أن يشهد صراعاً من صراعات الخلفاء، فمعارضة المسلمين للخلافة ظهرت منذ نشأة الخلافة نفسها وبقيت ببقائها، فتارةً تتخذ هذه المعارضة شكل قوةٍ عسكريةٍ كبيرةٍ تزلزل عروش الملوك، وتارةً تضعف حتى لا يُكاد يُحس بوجودها.

ورغم أنّ الأصل في الخلافة عند المسلمين أن تكون مبايعةً اختياريةً ترتكز على أهل الحلّ والعقد، إلّا أنّه بالرجوع إلى الواقع والتاريخ يُلاحظ أنّ الخلافة لم ترتكز إلّا على القوة الرهيبة، فلم يكن للخليفة ما يحوّط مقامه إلّا الرماح والسيوف والجيش المدجج والبأس الشديد، ولم يكن يرتفع عرشه إلّا على رؤوس البشر. ومن الطبيعي في كل أمّةٍ أن لا يقوم المُلك إلّا على الغَلبة والقهر، وفي الأمّة الإسلامية بشكلٍ خاصٍ ولطبيعتهم الخاصّة فلا يُمكن أن يُتصوّر أن يقوم فيهم مُلك إلّا بحكم القهر؛ فالإسلام لم يكتفِ بتعليم أتباعه فكرة الإخاء والمساواة، وتلقينهم أنّ الناس سواسية كأسنان المشط فحسب، ولكنّه مرّنهم على هذه الأفكار تمريناً وأراهم الكثير من الحوادث جعلتهم يلمسون المساواة فعلياً، فكانوا يأنفون الخضوع إلّا لله وكان كلٌ منهم ينادي خليفته أنّه لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا، ومنه فمثل هؤلاء الناس لا يُتصوّر خضوعهم لرجلٍ منهم ذلك الخضوع الذي يُطالب به الملوك رعيّتهم، فلم يخضع المسلمون للخلفاء المتلاحقين إلّا تحت حُكم السيف والقهر، فالخلافة لديهم مبنيةٌ على القوة وهذه حقيقةٌ واقعةٌ لا ريب فيها، ولكن يمكن قبول استثناء الخلفاء الثلاثة الأوائل فقط من هذه القاعدة، وكدليلٍ على ما سبق نورد ما حدث عندما أراد معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد حيث قام أحد أصحابه فقال: ” أمير المؤمنين هذا ” وأشار إلى معاوية ” فإن هلك فهذا ” فأشار إلى يزيد ” فمن أبى فهذا ” وأشار إلى سيفه.

إذا كان في هذه الحياة شيءٌ يدفع الإنسان إلى الاستبداد والظلم ويُسهل عليه العدوان والبغي، فذلك هو المُلك أو مقام الخليفة، فهو أشهى ما تتعلق به النفس وأهم ما تغار عليه، أفهل غير حب الخلافة والغيرة عليها دفعت يزيد بن معاوية إلى استباحة دم حفيد رسول الله وهو الحسين بن فاطمة؟ وهل غير تلك الأمور سلّطت يزيد بن معاوية على عاصمة الخلافة الأولى وهي المدينة المنوّرة لينتهك حُرمتها؟ وهل استحّل عبد الملك بن مروان بيت الله الحرام ووطأ حماه إلّا حباً بالخلافة؟ وهل بغير تلك الأسباب صار أبو العباس سفاحاً سفك دماء المسلمين وهم بنو أميّة؟ كما لم يتناحر بنو العباس بين بعضهم البعض، ولم يحارب الصالح نجم الدين الأيوبي أخاه العادل أبا بكر بن الكامل فخلعه وسجنه، وكذلك لم تمتلئ دولتا المماليك والجراكسة بخلع الملوك وقتلهم، إلّا حباً في الخلافة، وكذلك القول في دولة العثمانيين. ومن هنا نشأ أيضاً ضغطٌ ملكيٌ على حرية العلم والتعليم وخصوصاً علم السياسة لأنّه الأخطر على المُلك وهذا ما يُشكّل أحد أسباب قصور النهضة العلمية والإسلامية في مجال العلوم السياسية.

حتى وإن ثبت أنّ المسلمين في كل عصرٍ سكتوا على بيعة الخلافة (إجماعاً سكوتياً)، بل حتى لو ثبت أنّ المسلمين كلّهم اشتركوا بالفعل في بيعة الخلافة واعترفوا بها (إجماعاً صريحاً)، فيمكن إنكار كون هذا الإجماع إجماعاً حقيقياً ويمكن رفض استخلاص أيّ حكمٍ شرعيٍ منه بعد أن ثبُت تاريخياً كيف كانت تُأخذ البيعة من الناس. هذا عدا أنّ الإجماع فعلياً لم يكن إجماعاً يُعتدّ به لأنّ الخوارج والأصم من المعتزلة وغيرهم قالوا بعدم وجوب تنصيب خليفة أصلاً.

ثانياً: يتوقّف على نصب الخليفة إظهار الشعائر الدينية وصلاح الرعيّة، فبدون الخليفة ينتشر التناهب بين الناس ويكثر الظلم وتعمّ الفوضى ولا يُفصل في الخصومات ولا يتم الحفاظ على الكلّيات الست في الشريعة والتي هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال والعِرض.

وللرد على هذا المبرر يقول عبد الرازق أنّ المعروف الذي اتفق عليه علماء السياسة أنّه لا بدّ لاستقامة الأمر في أيّة أمّةٍ متمدنةٍ سواء أكانت ذات دينٍ أم لا دين لها، من حكومةٍ تُباشر شؤونها وتقوم بضبط الأمر فيها مهما كان شكل هذه الحكومة دستورية، استبدادية، جمهورية، ملكية…إلخ. وقد ترى علماء السياسة يتنازعون في تفضيل نوع من الحكومات على نوعٍ آخر ولكن لا تراهم يتنازعون حول أنّ أمّة من الأمم لا يتناسب معها سوى نوع واحد فقط من الحكومات. فإن كان الفقهاء الذين يقولون بوجوب وجود خلافة يقصدون بالخلافة الحكومة بالمعنى الحديث في علم السياسة بكل أنواعها السابق ذكرها فكان كلامهم صحيحاً.

ولكن إذا أرادوا بالخلافة ذلك النوع الخاص من الحكم الذي ينادون به فحجتهم غير موفقة. الواقع المحسوس الذي يؤيده العقل ويشهد به التاريخ قديماً وحديثاً يُظهر أن شعائر الله ومظاهر دينه لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومات الذي يسميه الفقهاء خلافة ولا على أولئك الناس الذين يُلقبون بالخلفاء، فلا حاجة للمسلمين إلى الخلافة لتسيير أمور دينهم ودنياهم، بل حتى أنّ الخلافة كانت ولا تزال نكبةً على الإسلام وعلى المسلمين وينبوع شرٍ وفسادٍ. ولتوضيح ذلك يمكن الرجوع بالتاريخ إلى منتصف القرن الثالث الهجري عندما أخذت الخلافة الإسلامية تتراجع فلم تعد تتجاوز دائرةً ضيقةً حول بغداد، وصارت خراسان وما وراء النهر لابن سامان وذريته من بعده، وبلاد البحرين وعُمان للقرامطة، واليمن لابن طباطبا، وأصفهان وفارس لبني بويه، والأهواز وواسط لمعّز الدولة، وحلب لسيف الدولة، ومصر لأحمد بن طولون ومن بعده الإخشيديين والفاطميين والأيوبيين والمماليك، عندما حصل ذلك لم يكن الدين في بغداد والتي هي مقر الخلافة خيراً منه في غيرها من البلاد التي انسلخت عنها ولا كانت شعائره أظهر ولا كان شأنه أكبر، ولا كانت الدنيا أحسن ولا شأن الرعية أصلح. 

فلا يصح القول أنّ الله بعزّته وجلاله والذي كفل البقاء لدينه أن يجعل عزّ هذا الدين وذلّه رهن نوعٍ من الحكومات أو صنفٍ من الأمراء ومنه فعباده من المسلمين لا يكون صلاحهم وفسادهم رهن الخلافة والخلفاء.

 

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى