مقالات الأعضاء

العلمانية (5): التعليم والمدرسة العامّة في الدولة العلمانية

عندما تستقبل المدرسة العامّة في أيّ دولةٍ علمانيةٍ الفتيان والفتيات الذين لم يصلوا حد التمتع بحقوقهم أيّ لم يصلوا لسن الرُشد، تحاول تربيتهم على الحرية والمعرفة العقلانية والثقافة الشاملة لتخلق لديهم استقلاليةً في الرأي والتفكير، لذلك فهي لا تحشرهم في جماعاتٍ ترغب العائلات أن تنسبهم إليها جبراً مجردين من حرية الاختيار الشخصية، فالأصل في المدرسة العامّة صفاء الفضاء المدرسي المفتوح للجميع، وأن يكون مفتوحاً فقط على الثقافة التحررية التي تبتعد بشكلٍ متساوٍ وحياديٍ عن كل خصوصية، لذلك لا يمكن لأيّ عقيدةٍ دينيةٍ أو أيّ قناعةٍ إلحاديةٍ أن تعلو وتهيمن في المدرسة، لأنّ هذا يحطم فوراً مبدأ المساواة ويتسبب في الوقت نفسه بالعنف بين العائلات التي لا تتقاسم القناعة ذاتها. ومن هنا لا يُسمح لأيّ جهةٍ دينيةٍ التدخل في التعليم العام أو في تأهيل معلمي المدرسة العامّة بحجة تعريفهم بالأديان، كما لا يجوز لأيّ حزبٍ سياسي أن يتدخل في المدرسة بذريعة التعريف بالعقائد السياسية، وهذا يقضي بأن يحرص المعلم على المحافظة على الأخلاق المهنية العلمانية والحيادية لضمان ألّا يتعرض الطلاب لأيّ تبشير.      

وعلى اعتبار أنّ المدرسة ليست مكاناً عادياً، لكونه يجمع تلامذةً من أصولٍ وحساسياتٍ متعددة من أوساطٍ مختلفة، لذلك من واجبها أن تصيغ خطابها ومناهجها باهتمامٍ عالٍ جداً لكي توحّد بين هؤلاء التلاميذ وترتقي بهم. وإن بدا فعل الاعتقاد طبيعياً لكل إنسان فإنّ المعتقدات خاصة، أمّا المعارف فهي كونيةٌ وعالمية|ٌ حتى وإن كان بعضها يزعج معتقداً ما، فلا يجب أن تهمل المدرسة تدريس نظرية فيثاغورس أو قانون الجاذبية الكونية أو نظرية داروين عن التطوّر أو واقعة إحراق جيوردانو برونو حياً في روما سنة 1600م بأمرٍ من محكمة التفتيش الكاثوليكية، فكلّها أمور يجب معرفتها.

ومنه القبول بالخيار الديني كقاعدةٍ وبالخيار غير الديني كاستثناءٍ هو مدانٌ وغير عادل، فأن يُطلب من العائلات التي لا ترغب في حضور أبنائها للدروس الدينية أن يصرحوا بذلك من خلال صياغة طلب إعفاء، هو إنكارٌ للحرية كما هو إنكارٌ للمساواة، والعكس صحيح، أيّ لا يجب أن يُدرج في البرنامج الدراسي درسٌ في الإلحاد وأن يُلزم المؤمنون على تقديم طلبٍ لإعفاء أطفالهم من حضور هذا الدرس. فواجب الدولة أن تضمن تعليماً علمانياً يُستبعد منه أيّ تبشيرٍ وتشيعٍ وكل تعظيمٍ لأيّ عقيدة دينية وأيّ حشوٍ للإلحاد، فأيّ درسٍ دينيٍ أو إلحاديٍ لا يجد لنفسه مكاناً في المدرسة العامّة.   

         أيّ فليس بوسع المدرسة العامّة أن تشجع معتقداً خاصاً أو حتى تدعم النموذج الروحي الخاص بذلك المعتقد، ولكن لها أن تُعرّف التلاميذ بمحتوى العقائد لكن من غير إصدار حكمٍ تقييميٍ يمكن أن يشوّه غاية التعليم الثقافية ويجرح بعض الطلاب، حتى وإن تطرقوا إلى بعض النقاط الحساسة في الأديان والتي تنطوي على مبادئ تنتهك حقوق الإنسان أو المساواة، كما لو تمّ الحديث عن تبعية المرأة للرجل المنصوص عليها في الأديان التوحيدية الثلاثة، فإن كان لا بدّ من إصدار حكمٍ كهذا فإنّ الأمر يقع على عاتق الطلاب أنفسهم بكل استقلالية بعد أن يكونوا قد تعلموا قواعد التفكير التي تؤهلهم لإصدار الأحكام. كما يُتيح لنا التاريخ والأدب والفن والفلسفة ذكر الظواهر المرتبطة بالأديان كأعمالٍ حضاريةٍ دون فصلها عن سياقها، فيتم تدريسها والتعريف بها بتحاشي النقد اللاذع للمعتقد الديني والتبشير به بصورةٍ علنيةٍ أم مغطاة. فعلى المعلمين والأساتذة أن يمتنعوا عن إعطاء الرأي في المعتقدات، وأن يتحفظوا على كلامهم إذا شعروا أنّه قد يجرح أصحاب العقائد، سواء بنقدٍ ضمنيٍ للدين أو بجرح الملحدين بالتبشير للدين وهذا يدل على قوة الأخلاق المهنية لديهم، والتي تُلزمهم بتسليم كل عناصر التفكير الشخصي للتلميذ دون البت وإصدار الأحكام بدلاً من الطلاب الذين يُقصد قبل كل شيء تعزيز استقلاليتهم.

كما أنّ المدرسة العلمانية تهتم بالبُعد الثقافي والجمالي والأدبي والفلسفي وتوفر للطلاب فهماً مجرداً بعيداً عن العقائدية لتوضح معنى هذه الأعمال ورؤى العالم الذي استوحاها. فتسمح دروس الأدب ومقاربة الرسامين في عصر النهضة بالتطرق إلى التمثيل الديني دون الخروج على العلمانية بالتعريف بما كان له من أهميةٍ في تاريخ الفن والفكر.   

إذاً الحديث عن العقائد في الصف ممكن ولكن بعد التأكيد على أنّ المقصود هو العقائد التي يؤمن بها بعض الناس والمرفوضة من الآخرين، فمفهوم الدين ” الموحى به ” لا وجود له إلّا بالنسبة للذين يؤمنون به، وهكذا يكون الحديث عن معجزات القيامة في المسيحية والبشارة والصعود إلى السماء كالحديث عن قصةٍ أسطوريةٍ كبرى لا تصدقها إلّا بعض العقائد، والتعليق على قصة خلق العالم في سفر التكوين يكون مماثلاً لدراسة جزء من قصيدة هيزيود عن نشأة الآلهة، فدراسة الطروحات المسيحية تكون بذات دراسة طروحات دين اليونانيين القُدامى وكذلك أيّ دينٍ آخر، وبالتأكيد هذا لن يروق للممثلين الرسميين للأديان ولكن رفضهم غير مقبول ولا يعتد به؛ لأنّ العمل بغير ذلك يعني التفضيل والانحياز إلى معتقدٍ دون آخر وهذا يخالف قواعد العلمانية.

         إلّا أنّ خدمات الإرشاد الروحي أو الديني يمكن أن توجد في المدارس الداخلية؛ لأنّ الطلاب يقضون كل وقتهم فيها أيّ أنّ المحيط الخاص والمحيط العام يتواجدان في المكان نفسه، لكن على أن يكون للطالب الحرية التامّة في اختيار زيارة المرشدين الدينيين أو عدم زيارتهم. أمّا طلاب المدارس التي تعمل نهاراً فقط لا يجوز لها أن تسمح بوجود مرشدين دينيين فيها، لأنّ الأهل الذين يرغبون بتعليم أبنائهم ديناً معيناً يستطيعون أن يقدموه لهم خارج المدرسة، والملحدون واللاأدريون يلقون المعاملة نفسها.             

         أمّا بالنسبة لقضية الحجاب وهي من أبرز القضايا المطروحة حالياً في المدارس العامة في الدول العلمانية، فالحجاب ليس مطلوباً إلّا في إطار تأويلٍ أصوليٍ ومتشددٍ للإسلام، فالأصوليون أقاموا من مجرد توصيةٍ تتعلق بالاحتشام التزاماً صارماً بالحجاب جرى إدخاله على الشريعة واستتبعه منطقٌ حقوقيٌ ومجموعة قوانين في الأحوال الشخصية تكرس مكانة المرأة الثانوية في المجتمع. لقد استخدمه طالبان في أفغانستان إلى حدّه الأقصى بإغراق جسم المرأة تحت البُرقع؛ وهو رداءٌ المنفذ الوحيد فيه شبكةٌ من القماش تسمح بالرؤية فحسب. إنّ الحرمان من الدراسة والعزل عن كل نشاطٍ مدنيٍ أو سياسي، والطلاق من جانب واحد واستحالة اختيار شريك الحياة بحرية، وحياةٌ جنسيةٌ وشخصيةٌ مقيدةٌ بسلطةٍ خارجيةٍ ذكورية…إلخ، تشكّل نظاماً كاملاً يمسّ حرية المرأة قي عالم الأصولية، وهذا النظام مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالحجاب الذي يُعبّر عن سلب حرية التصرف الفردية للمرأة، فالحجاب يقع في سلسلةٍ لا تنتهي من أعمال الطاعة التي تُخضع المرأة وهو غالباً ما يكون مفروضاً وليس مرغوباً فيه. فقبول الحجاب معناه تكريس وصايةٍ مذهبيةٍ وعائليةٍ على المرأة، وهذا يستتبعه نتائجٌ كثيرةٌ وخطيرةٌ منها الحرمان من درس البيولوجيا ورفض درس الرياضة وقطع الدراسة من أجل الزواج بشريكٍ غير مختار، وغيرها من الوصايات التي يحاولون تكريسها تحت ذريعة قانونٍ خاصٍ للأحوال الشخصية يطالبون به كحقٍ ثقافيٍ لهم، فارتداء المنديل أو الحجاب في المدرسة يتعارض مع العلمانية ومع أهم أسسها وهو حرية الاعتقاد، فالقبول به يعني تكريس وضعٍ قانونيٍ يجعل التلميذ القاصر حاملاً للواء مفهومٍ دينيٍ لا يستطيع أن يتمايز عنه بحرية، كما أنّ المنطق القانوني يقول بأنّ التلميذ هو صاحب الحق في تحديد المعتقد الذي يريد أن يتبنّاه، وليست العائلة أو الجماعة الخاصة هي صاحبة الحق في تحديد معتقد الطفل، كما أنّ المنطق القانوني يفرق بين القاصر والبالغ الراشد، والتلميذ هنا قاصرٌ لا يجوز معاملته معاملة مواطنٍ بالغ راشد، وبالتالي لا يمكن القول أنّ ارتداء الطفلة للحجاب كان حريةً شخصيةً وإيماناً منها فهي لا تزال دون سن الرشد ولم تبلغ مستواً كافياً من الإدراك والوعي للاختيار. كما أنّ القبول بالحجاب في المدرسة سيحوّل قاعة الدراسة إلى مكانٍ للتظاهرات والانشقاقات التي تمزّق المجتمع المدني، لأنّ قانون الأب أو الأخ الأكبر أو قانون القادة الدينيين سيصبح هو السائد في المدرسة، وستصبح المدرسة وسيلةً لتكريس خضوع فردٍ يحط مذهبٌ دينيٌ من شأنه ممّا يؤدي بالنتيجة إلى انغلاق المدرسة واستلابها. فاستبعاد طفلةٍ محجبةٍ عن مقاعد الدراسة في فرنسا ليس طرداً لها إنّما هو طردٌ للحجاب بوصفه حجاباً فحسب، كونه يؤدي إلى انتهاك متطلبات المدرسة العلمانية، كما أنّ طرد الطفلة لا يعني حرمانها من التعليم خلال مهلة الطرد لأنّ حقها في التعليم مكفولٌ بواسطة المركز الوطني للتعليم عن بُعد، وذات الأمر ينطبق على ارتداء التلميذ لأيّ شعارٍ دينيٍ داخل المدرسة كالصليب في الديانة المسيحية والقلنسوة اليهودية (الكيباه) والكيسكي وهو غطاء رأس يرتديه الرجال في ديانة السيخ…

         أمّا فيما يخص هوية القائمين على تدريس الظاهرة الدينية، فالأصل أنّ رجال الدين ليس لهم الحق في التدخل في المدرسة العامّة، وهذا لا يعني إنكار كفاءتهم بل لأنّه يُخشى أن تغلب عليهم رؤيتهم المنحازة لعقيدتهم وهذا غير مشروع في المدرسة العلمانية، كما أنّ هذا الأمر ينطبق نفسه على حالة شرح النظريات الشيوعية في الصف، فالمفكرين الشيوعيين خريجي معاهد الأبحاث الماركسية هم مؤهلون أكثر من غيرهم لشرحها، لكن لا توكل لهم هذه المهمة خوفاً من تدخلهم في المدرسة ومحاولة التأثير على تفكير الطلاب، فليس بالإمكان أن يكون المرء قاضياً وطرفاً في النزاع في الوقت نفسه. وهذا لا يعني أنّ الأساتذة المؤمنين أو الأساتذة المنضمين إلى صفوف الشيوعية يجب أن يُمنعوا من التدريس، بل يُسمح لهم التدريس على أن يلتزموا بأخلاق المهنة وبالتفويض الذي تأتمنهم عليه الدولة، أي أن يُبقوا وجهة نظرهم الخاصة لأنفسهم. فالأستاذ مُلزمٌ ببذل الجهد ليعلم ما هو مقررٌ حسب القانون العام المشترك وليس حسبما يعتقد أو يفكر شخصياً أثناء ممارسته لوظيفته أمام الطلاب الذين في عُهدته، فمن المحظور عليه أن يغتصب المنصب العام المُكلّف به واستغلاله لتمرير أفكاره، فالأستاذ ليس نبياً وليس له أن يكون كذلك.

         باختصار تدعو المدرسة العلمانية إلى رفض السعي التبشيري الصريح أو الباطني، كذلك تدعو إلى رفض المجادلة التي ينتج من ورائها الحطّ من شأن معتقدٍ ما، فلا تفضيل للدين ولا للإلحاد في المدرسة المفتوحة للجميع، فإنّه سيكون من الخطير جداً بالنسبة للمدرسة العامّة أن تحتلها تمزّقات المجتمع المدني وحرب الآلهة. لذلك نرى أنّ المدرسة العلمانية في أيامنا هذه هي أحد الأماكن النادرة أو ربما الوحيدة التي لا يخضع الناس فيها لأيّ مشروعٍ سواء كان دعائياً أو دينياً أو سياسياً، فتتجلى العلمانية بحد ذاتها كاحترام ورهان على الاستقلالية والذكاء والاهتمام بترك الطفل يصبح طالباً ويصل تدريجياً إلى امتلاك أفكاره الخاصة كي يتمكن من الاختيار بنفسه الخيار الروحي المناسب سواء كان إلحادياً أو لا أدرياً أو دينياً.

         خلاصة القول أنّ حرية المعتقد والمساواة الصارمة بين المؤمنين وغير المؤمنين وتحرير المحيط العام وحياديته واستقلالية المحاكمة وتنميتها لدى كل فردٍ بفضل المدرسة العلمانية، كّلها تشكّل في الواقع القيم الكبرى للعلمانية. ولا يهدف الفصل بين الدولة والدين إلى محاربة الأديان إنّما إلى تقديم ما يوحد الناس أو ما يمكن أن يوحدهم، فاندماج الفرد مع الآخرين دون أن يفرض عليهم دينه أو نظرته الخاصة للعالم، هو ما تهدف له العلمانية. أيّ لا حاجة للأفراد في ظلّ الدولة العلمانية أن يتنكّروا لمرجعياتهم الثقافية أو الدينية، وإنّما يكفيهم أن يميّزوا المبادئ التي يقوم عليها العيش المشترك دون إلحاق الغبن بأيٍ منهم، فعلى المؤمن أن يفهم أنّ الوسم الديني للسلطة العامّة يجرح غير المؤمن، وعلى الملحد أن يفهم أن الدولة التي تنشر الإلحاد غير مقبولة من المؤمن. فالعلمانية تتطلب جهداً من الانفتاح ومن ضبط النفس في الوقت نفسه لأنّها تهدف إلى حماية المحيط العام من أي قنصٍ أو استلابٍ فئويٍ سواء أكان باسم الثقافة أم باسم الدين. هذا الجهد هو ما يلزم على الناس أن يبذلوه ليتعلّموا كيف يعيشون معاً وكيف يحترمون الحرية في الفكر والعمل.

الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى