مقال رأي

التراث ينبوع أم مستنقع؟

لا شك بأنّ السؤال الأهم الذي يتطلب إجابة معرفية ذات وظيفة عملية هو: لماذا يجب أن نقيم صلة مع تراثنا الثقافي المكتوب ورموزه الفاعلة؟ هذا السؤال هو شرط ضروري للإجابة عن السؤال كيف نقيم هذه الصلة، وكيف تمت؟

إن الانتماء الوطني – القومي في أحد أشكاله الأساسية هو وعي بالانتماء، والوعي بالانتماء هو وعي باللا انتماء الثقافي للوطن والأمة، ولهذا نظر فلاسفة الأمة إلى التاريخ المشترك والثقافة المشتركة كمقومين أساسيين من مقومات الانتماء، ولهذا ما من أمّةٍ معاصرةٍ تبني علاقة عداءٍ مع تاريخها وتاريخ ثقافتها ورموزها الخالدة.

والتراث الروحي الفكري والجمالي الإبداعي فضلاً عن أنّه يعزز الانتماء فإنه في الوقت نفسه يمد الإبداع المعاصر بمادة لا تنضب، وآية ذلك أن القيمة المعرفية المنهجية، والقيمة الجمالية الأدبية، والقيمة الأخلاقية، جميعها حاضرة في تراث الأمة.

لسنا في وارد ضرب الأمثلة على تلك الأمم المعاصرة التي تعيد تجديد إرثها الثقافي وتثقيف الأجيال الراهنة بهذا الإرث، لكن تجربتها ذات أهمية في وعي علاقة التراث بالراهن من زاوية الإنتماء والإبداع.

وما من أمةٍ إلا وتمتلك تراثاً ماضياً من الثقافة المكتوبة في الأدب والفكر والفلسفة والفن والفقه، ويظل هذا التراث جزءاً لا يتجزأ من هويتها التي تخضع لنواميس التطور التاريخي.

أما كيف نقيم هذه الصلة بالتراث؟ فهو السؤال الذي يحتاج فهماً ونظراً.

لكن الموقف من هذه الحقيقة المجمع عليها ليس واحداً عند جميع الأمم وعند جميع أشكال الوعي داخل الأمة الواحدة.

ولما كانت العرب من الأمم التاريخية ذات الثراء الواسع من تراثها الماضي في كل مجالات الثقافة، فإن الوعي بالحاضر والمستقبل قد خلق رؤى متعددة حول مكانة هذا التراث في الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها الواقع المعيش.

فمنذ عصر النهضة وحتى الآن ما زال الفكر العربي منشغلاً بالسؤال عن الدور الذي يقوم به التراث وتعددت الأسئلة: هل نقيم قطيعة مع التراث ونهيل التراب عليه؟ هل نستفيد منه بعد تأويله وتجديده؟ هل نمشي على خطى الأسلاف؟ هل التمسك بالتراث شرط من شروط التمسك بالهوية؟

هناك عقلان ينظران إلى التراث بوصفه مستنقعاً: العقل النكوصي والعقل العدمي، فأما العقل النكوصي فهو ذلك العقل الذي لا يرى المستقبل العربي إلا على إنه استعادة الماضي السياسي والاقتصادي والفكري والفقهي، وعليه فإن قطع الصلة  بين كل ما هو جديد والماضي الذي يختزن الحقيقة، لأن الحقيقة قائمة في قلب هذا المستنقع الراكد بما في ذلك الاحتفاظ بالصراعات التاريخية القديمة.

وبالمقابل فإن العقل العدمي هو الذي يرى في تراث الأمة كله مستنقع يجب تجفيفه بالكامل، وإنجاز قطيعة معه بدعوى الدخول إلى العصر الراهن ومنجزاته.

أما العقل العملي النقدي الإبداعي الناهض بعملية تجديد الحياة دون توقف فإنه لا يرى التراث إلا بوصفه نبعاً يمد الحياة المعاصرة بمفاهيم قادرة بعد عملية نقد بتأسيس وعي جديد بمشكلات الواقع المعيش، متكئاً على حقيقة بأن الحياة سيرورة وصيرورة في الوقت نفسه.

ففي نظرة العقل العملي النقدي الإبداعي يظل ابن خلدون، مثلاً، منبعاً منهجياً ثرياً في نظرته إلى فلسفة التاريخ، في وظيفة مفهوم العصبية، وقس على ذلك كتاب ابن رشد ” فصل المقال ” الذي أزال المعركة بين العقل والنقل التي أعلنها الغزالي، وقس على ذلك الأفكار التي يعج بها كتاب ابن طفيل ” حي ابن يقظان” في نظرية المعرفة.

بل وما زال كتاب الفارابي ” المدينة الفاضلة ” يحتفظ بأهميته في تطوير النظرة إلى المدينة الفاضلة.

وهناك عشرات الأمثلة على معنى التراث ينبوعاً.

فالعقل العملي النقدي الإبداعي إنما يقوم بوظيفته في تناول التراث متحرراً من الترديد والتقليد وإضفاء صفة القداسة على الوعي القديم، ولهذا فهو يعيد قراءة التراث بمنطق آخر منجزات مناهج المعرفة العلمية، ولهذا فهو يعيد إنتاجها انطلاقاً من وظيفتها المعرفية.

وإذا كان بعض التراثيين العرب الأيديولوجيين قد حاولوا أن يطابقوا بين أفكار هذا الفيلسوف العربي مع الفيلسوف الغربي الحديث، فإنهم قد وقعوا في مطب التناول الأيديولوجي للتراث، متناسين بأن النظرة الأيديولوجية لمنجزات المعرفة التاريخية مفسدة مضرة. 

ولهذا فالعقل النقدي العملي الإبداعي يقرأ التراث متحرراً من النزعة الأيديولوجية، فالتراث منبع معرفي وليس منبعاً أيديولوجياً.

تأسيساً على هذه النظرة، من الضروري أن نقيم علاقة نقدية بالخطابات العربية المعاصرة التي تناولت التراث، وتحريرها من حمولاتها الأيديولوجية.

فلقد تراكمت في مرحلة السبعينيات والثمانينيات عشرات الكتب التي تناولت التراث العربي الإسلامي، وانتمى مؤلفوها إلى مختلف النزعات الأيديولوجية، من محمد عمارة إلى حسين مروة، مروراً بمحمد عابد الجابري، فقد بحث هؤلاء، كل وفق منطلقه، عن العقل والمادية والعدالة والصراع الطبقي والديالكتيك والثورة والحرية.

والتناول النقدي لهذا الإرث الذي تركه التراثيون العرب المعاصرون، وتحريره من روحه الأيديولوجية شكل من أشكال النقد المعرفي.

وتجب الإشارة إلى أن أي تناول نقدي تجديدي للتراث العربي الإسلامي لا تؤتى ثماره إلا تأسيساً على منهج تاريخي يربط الأفكار بشروط إنتاجيهتا التاريخية أولاً، ثم يربط تجديدها بالشروط الجديدة ثانياً.

وهذا لا ينفي أن تُستخدم مناهج المعرفة المتعددة في امتلاك التراث، كالمنهج الفيلولوجي والمنهج البنيوي والمنهج التفكيكي الخ.

إن هذه المناهج لا تمدنا بأدوات معرفية لإعادة قراءة التراث قراءة تجديدية فحسب، وإنما تسمح لنا بفهم التاريخ وإعادة كتابته متحررين من التحزب الذي يفسد الحقيقة التاريخية الموضوعية، فالتاريخ العربي الإسلامي هو جزء مهم من تراثنا، وما زال هذا التاريخ حاضراً في الوعي، فإعادة كتابة التاريخ وفق مناهج البحث العلمية من شأنه أن يجعل التاريخ تراثاً جمعياً يلغي الصراعات الراهنة المستندة إلى الصراعات القديمة والموقف منها والانتماء إليها.

ويبقى السؤال المهم: هل ينتمي الخطاب الديني إلى التراث وتسري عليه أنماط تناول التراث؟

الخطاب الديني الإسلامي خطابان: الخطاب الأساس وهو خطاب القرآن والحديث، والخطاب التأويلي والتفسيري والفقهي، وهو الخطاب البشري حول الخطاب الأساس، وهذا الخطاب هو الذي ينتمي إلى التراث القابل للتجديد والدحض والتجاوز والإغناء، والذي يسمح بمثل هذه العلاقة بهذا التراث هو الخطاب الأساس نفسه، فانطلاقاً من تأويل الخطاب الأساس وفق حاجات العصر الراهنة، وفق الضرورات المعيشية يمكن الحكم على الخطابات القديمة بوصفها تراثاً.

ومن هنا إن حركة الإصلاح الديني الإسلامي التي بدأت مع الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وما زالت مستمرة حتى الآن هي شكل من أشكال تجديد التراث الديني من حيث هو نبع، فالعقل والنقل والحكم والاقتصاد والقانون والعلاقات الدولية والعلم والقيم كل ذلك يتطلب إعادة قراءة للتراث استجابة للجديد المعيش، فيما جميع الحركات السياسية الإسلامية العنفية المنتمية إلى شتى المذاهب هي حركات نكوصية مستنقعية. تتخذ من بعض أنماط السلوك الماضية التي فرضتها الضرورات، وبعض التأويلات والخطابات الفقهية القديمة المرتبطة بمرحلة من مراحل التاريخ أساساً لوعيها بالحاضر.

وبعد: فإن مهمة تحويل التراث إلى منبع ثري يسمح بقراءات تجديدية تتطلب عملاً مؤسساتياً يوحد جهود أصحاب العقول المبدعة في شتى الاختصاصات، والتفكير بإنشاء معهد للتراث العربي الإسلامي قد يفي بالغرض.

الدكتور أحمد برقاوي (فيلسوف فلسطيني سوري)
نقلًا عن صحيفة نداء بوست الإلكترونيّة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى