مقالات الأعضاء

العلمانيّة (3): أسس العلمانيّة

عند النظر إلى أيّ مجتمعٍ في عصرنا هذا نُلاحظ أنّ الناس يختلفون في معتقداتهم؛ فبعضهم يؤمنون بإلهٍ واحدٍ، وآخرون يؤمنون بآلهةٍ متعددةٍ، والبعض الآخر يعتبر نفسه لا أدرياً، وآخرون ملحدون، وهؤلاء جميعاً عليهم أن يعيشوا معاً في دولةٍ واحدةٍ، إذاً فعلى هذه الدولة أن تضمن للجميع حرية المعتقد والمساواة في الحقوق. ولتحقيق ذلك يجب أن تكون السلطة العامّة محايدةً على الصعيد الديني؛ لأنّ حرية المعتقد تأبى أيّ إكراهٍ في الدين أو في الأيديولوجيا، والمساواة في الحقوق تتنافى مع إعطاء قيمةٍ مميزةٍ لعقيدةٍ دينيةٍ ما أو للإلحاد. هذه الحيادية الدينية التي يجب أن تتمتع بها السلطة العامّة هي الضمانة الوحيدة لعدم التحيّز لمجموعةٍ دينيةٍ ما، وهي تكفل لكل إنسانٍ أن يتماهى في الدولة؛ لأنّه يجد نفسه على قدم المساواة مع الآخرين مهما كانت معتقداته ملحدةً أو دينيةً. فإنشاء دولةٍ دينيةٍ يعني رجوع محاكم التفتيش والحروب الدينية والاضطهاد وأشكال التمييز التي تستهدف غير المؤمنين والمفكرين الأحرار، وحتى إن لم يتحقق ذلك وكانت الدولة التي تتبنّى مذهباً ما قادرةً على احترام حرية المعتقد لا يمكن مساواتها بالبلدان العلمانية؛ لأنّ هذه الأخيرة تضيف إلى احترامها حرية المعتقد احترام مبدأ المساواة الأخلاقية لكل المواطنين من خلال رفضها تمييز خيارٍ روحي معينٍ، فإلحاداً تتبنّاه السلطة العامّة يؤدي إلى عدم قدرة المؤمنين على رؤية أنفسهم ممثلين في تلك السلطة، وبالعكس فإنّ اعتماد الدولة لمذهبٍ ما يؤدي إلى عدم رؤية الملحدين أو غير المؤمنين أنفسهم ممثلين في تلك السلطة أيضاً، فحيثما يكون دينٌ ما مسيطراً روحياً ورسمياً تتعرض الأديان الأخرى بصورةٍ عامّة للقمع بأشكالٍ ودرجاتٍ مختلفةٍ ويأخذ التمييز بين المواطنين أشكالاً عدة.

         وعلى هذا فالعلمانية ترتكز إلى ثلاثة أسسٍ غير قابلةٍ للتجزئة: حرية المعتقد، المساواة بين المواطنين أيّاً كانت قناعاتهم الروحية أو جنسهم أو أصلهم، والتطلع للصالح العام والخير المشترك للجميع كمبررٍ وحيدٍ لوجود الدولة.

         أ- حرية المعتقد: العلمانية لا تكفل الحرية الدينية وحدها بل تكفل حرية المعتقد أيضاً، وبين هاتين الحريتين فرقٌ شاسعٌ؛ فحرية المعتقد هي الحرية العامّة التي تشمل كل وجوه المعتقد أيّ تشمل المعتقد الإلحادي واللاأدري ومن ثمّ لا يجوز الاعتراف بحرية التعبير عن المعتقد ثم تعريف الملحدين واللاأدريين بشكلٍ سلبي وقذفهم بالكفر، وإنّ حرية المعتقد تتضمن إنهاء قانون الإيمان القسري فهي إمّا أن تكون موجودةً كاملةً أو أن تكون غير موجودةٍ مطلقاً، حيث لا تقتصر على حرية الحصول على دينٍ ما أو الخروج من دينٍ ما شريطة الحصول على أي دينٍ آخر(الحرية الدينية)، بل هي تفترض الحرية الكاملة في القناعة الشخصية مهما كانت طبيعتها، أيّ هي تتضمن الأنماط الثلاثة الكبرى للخيارات الروحية: الإلحاد واللاأدرية والإيمان الديني.

ب- المساواة: تتسم العلمانية بالكونية التي تيسّر لها استقبال كل البشر دون أن تمنح أيّ امتيازٍ مادي أو رمزي لأناسٍ بعينهم، حيث تقوم على المساواة المطلقة والصارمة بين المؤمنين والملحدين واللاأرديين، وهذه المساواة لا تتفق مع أدنى تمييزٍ سواء كان إيجابياً أو سلبياً يُطبق على أساسٍ إلحاديٍ أو دينيٍ، وتعتبر العلمانية أنّ تبنّي أيّة ثقافة أو تقاليد تحت غطاء ما يسمّى بالهوية الجماعية ينطوي بشكلٍ غير مباشر على تكريس أفضلية علنية لإحدى الخيارات الروحية دون غيره، وهو غير شرعي ويخلّ بمبدأ المساواة وقد يتسبب بممارسة العنف على من لا يعتنقون هذا الخيار الروحي؛ لأنّه يعني خصخصة المحيط العام لصالح خيارٍ روحيٍ معيّنٍ ووضع خيارات الآخرين في منزلةٍ أدنى.

         ج- التطلّع للصالح العام والخير المشترك: تهتم العلمانية بتوحيد الناس في إطار الدولة، ولتحقيق هذه الغاية تفترض وجود تمييزٍ قانونيٍ بين المحيط العام وهو ما يخص جميع الناس من أمّةٍ واحدةٍ أو جماعةٍ سياسيةٍ، والمحيط الخاص وهو ما يخص فرداً واحداً أو مجموعةٍ من الأفراد تجمعوا بحرية ضمن طائفةٍ دينيةٍ مثلاً. فالأصل في المحيط العام استهدافه الصالح العام، والأصل في المحيط الخاص للفرد أن يكون متمتعاً بحريةٍ تامةٍ في نطاق مجاله الخاص، شريطة أن يعترف بهذه الحرية للآخرين جميعاً وفي نفس الوقت أن يحترم المجال العام الذي يجعل الحرية ممكنةً في نطاق المساواة، وهذا الاحترام بدوره ينهي أيّة وصاية أو تجزئة مذهبية ممّا يضمن بقاء المحيط العام على مسافة حيادية من أيّ معتقد أو من أي خصوصية. أي بمعنى آخر تفترض العلمانية وجود تمييز قانوني بين حياة الإنسان الخاصة كما يعيشها هو وبين بُعده العام كمواطن؛ فكل إنسانٍ له ما يميزه في حياته الشخصية وما يتبنّاه من قناعةٍ روحيةٍ سواء كانت دينية أم غير دينية، ويستطيع الشخص بالتأكيد أن يتشارك قناعاته مع الآخرين طالما بقي التعبير عنها متوافقاً مع حقوقهم. وعلى هذا لا يُعترف للفرد بأيّ دورٍ كمسؤولٍ عن الضمير ولا سلطة له ليفرض على الناس ما يجب أن يؤمنوا به فيمكن أن يكون تابعاً لأحد المذاهب الدينية ويمكن أن يعتقد الرؤيا الملحدة للعالم، إلّا أنّ قناعته هذه قد تأسست فعلياً بشكل مختلف عن تلك التي لدى الآخرين، أيّ يصبح أنصار أيّ فكرٍ جزءاً من كيان المجتمع الفكري، يعرضون فكرهم ولا يفرضوه، ويدافعون عن منهجهم دون أن يدفعوا الشعب إلى تبنّيه، ويواجهون ويناقشون الآخرين بدلاً من توجيههم ويفكرون كما يحلو لهم دون أن يملكوا تكفير الآخرين، فلا يملكون فرض آرائهم بالقسر أو ممارسة العنف وإلّا تعرضوا لسيف القانون حرصاً على الأمن والنظام العام.

         فالعلمانية تقوم على تحرير المحيط أو المجال العام من النفوذ الممارس باسم أحد الأديان أو باسم أحد الأيديولوجيات، وهكذا تصون المحيط العام من أيّ تنازعٍ بين الفئات الاجتماعية أو أتباع المذاهب الدينية المتعددة. لذلك فهي تقتلع كل تفضيلٍ مذهبيٍ من المحيط العام ممّا يضمن للأديان وللعقائد الإنسانية الأخرى الإلحادية واللاأدرية حريةً ومساواةً حقيقيةً، فليس لأيّ معتقدٍ صلاحية الهيمنة على الحياة العامة. إلّا أنّ مثل هذا الاستئصال لا يعني أنّ القناعات أو الأديان لا تستطيع أن تمارس أيّ تأثيرٍ على القوانين أو المجتمع، ولكن ليس لها أن تباشر هذا التأثير إلّا من خلال تعبيرها عن رأيها تعبيراً حراً في ساحة الجدل والنقاش العام في الشارع؛ بمعنى آخر لا تتمتّع السلطات الدينية في بلدٍ علماني بوضعٍ قانوني معترفٍ به من قبل السلطة العامة، وإنّما هي لا تتجاوز كونها مؤسسات أو أقطاب روحية لكل مواطن حق الاعتراف بها وبآرائها أو عدم الاعتراف بها. فتستطيع الكنيسة مثلاً أن تُجهر بعدائها لحبوب منع الحمل ولكن ليس لها أن تفرض على السلطة العامّة أو على المجتمع ضرورة استشارتها بوصفها سلطة دينية؛ أيّ ليس لها حق الإشراف على سن أيّ قانونٍ يتعلق بحبوب منع الحمل وبنشرها وتوزيعها بين الناس. كما أنّ جعل الدين قضيةً خاصةً من الناحية القانونية لا يعني نكران البُعد الجماعي له إنّما هو رفض التنازل عن المحيط العام لصالح مبدأ إيماني معيّن، وللحفاظ على حياد الدولة الديني الذي يسمح لها أن تكرس نفسها للجميع فالدولة من واجبها الاهتمام بتمثيل ما هو مشترك فعلياً بين الجميع وهذا هو ما يضع حدود اختصاصاتها. وإذا صادف أن تمتع مذهبٌ ما بالأكثرية في مجتمعٍ معينٍ فهذا لا يعطيه أيّ حقٍ سياسي أو امتيازٍ زمني، حتى وإن تمّ احترام حرية المعتقد عند الأقليّة واحترام المساواة للجميع. لذلك يُلاحظ أنّ الدولة العلمانية لا تنظم احتفالاتها الوطنية الرسمية في دور العبادة ولا تضع احتفالاتها تحت رعاية الإلحاد.

         وهنا تجدر الإشارة إلى محاولة البعض أن يشيعوا للناس أنّ العلمانية هي وجهٌ من أوجه الإلحاد المقنّع ويحاولون الحطّ من شأنها بدمجها بالأيديولوجيا الستالينية وهذا يظهر من المجادلات الحادة التي ظهرت في بولونيا وسلوفينيا، وهما بلدان يعترفان بفصل الكنيسة عن الدولة، عندما حاول الفاتيكان فرض حق إشراف السلطات الدينية على المناهج المدرسية. إلّا أنّ الامتياز الذي ترفضه العلمانية للدين متوجّب الرفض أيضاً للإلحاد الذي لا يعدو كونه نظرةً معينةً لعالمٍ خاصٍ مثله مثل الدين، وبالتالي لا يجوز له المطالبة بامتيازاتٍ عامّة. فعندما اضطهد الاتحاد السوفييتي الستاليني الأديان وفضّل رسمياً الإلحاد فإنه حطّ من قدر العلمانية بالوضوح ذاته الذي يفعله أولئك الذين يريدون منح امتيازات لدينٍ معيّنٍ. وكذلك مقاومة العلمانية للأديان كانت منحصرةً بظروفٍ معينةٍ لها ما يبررها، فسيطرة السلطة الدينية على السلطة العامّة جرّ صراعاتٍ تاريخية قاسية حتى تمّ الاعتراف بالقانون العلماني في نهاية المطاف، صراعات الانعتاق العلماني هذه كانت ضروريةً لمقاومة الحكم الديني وهي تشبه المقاومة التي قادها البشر حتى رأى إعلان حقوق الإنسان النور، ولكن مقاومة الحكم الديني مقاومةً قتاليةً لم تكن إلّا بسبب رفض السلطات الدينية إعادة المؤسسات العامّة إلى مقاصدها ولم تكن هذه المقاومة القتالية بحد ذاتها جزءاً من مبادئ العلمانية وإنّما كانت نتاجاً لظروفٍ معيّنةٍ، فلم توجد علمانية مقاتلة إلّا حيث سبقتها سلطةٌ دينيةٌ مقاتلةٌ كما لم يشب قتالٌ من أجل حقوق الإنسان إلّا مع أولئك المتمتعين بالامتيازات.

          إذاً فالمجتمع العلماني هو المجتمع السياسي الذي يستطيع الجميع فيه أن يعترفوا ببعضهم بعضاً، وهو المجتمع الذي يبقى الخيار الروحي فيه شأناً خاصاً، سواء كان شأناً خاصاً ذو بُعدٍ فردي تماماً أو ذو بُعدٍ جماعي؛ وفي هذه الحالة الأخيرة فإنّ الجماعة التي تشكّلت بحريتها واعتنقت خياراً روحياً معيّناً لا تستطيع الادعاء بأنّها تتحدث باسم المجتمع كلّه ولا يُسمح لها أن تحتل المحيط العام فمقامها مقام الجمعيات الخاصة وليس مقام المجتمع، أي هي جمعية تحكمها قوانينها الخاصة وتتخذ بُعداً جماعياً.

الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى