العلمانية (1): العلمانية لغةً واصطلاحًا
ثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها من تونس عام 2011م حطّمت كافة الحواجز التي كرّسها الاستبداد السياسي والديني في دولٍ عاشت أكثر من خمسين عامًا تحت سطوة ” البوط العسكري ” كما تفضل شعوب هذه الدول أن تُطلق على الدكتاتورية العسكرية التي تسود دولهم.
الآن وقد أفاقت هذه الشعوب من سباتها الطويل وأدركت كم تخلفت عن ركب الحضارة بشتى جوانبها العلمية والفكرية والأخلاقية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية، بدأت تظهر الكثير من المفردات في الشارع العربي وتدور حولها النقاشات والتي كان من المحرّم الحديث بها حتى سرًا بين المرء ونفسه ومنها الإلحاد والليبرالية والحرية والنسوية وحتى المثلية الجنسيّة، بدأنا نرى أفرادًا تمردوا على عادات المجتمع التي وضعها الأموات لتكبّل الأحياء من بعدهم، وأفرادًا تمردوا على الأديان التي فُرضت عليهم بالولادة دون أن تُتاح لهم فرصة التفكير فيها واعتناق ما يناسبهم ويقنعهم منها، بدأنا نرى نساءً تخرجن إلى الشوارع رافضةً الصورة النمطية للأنثى التي تجبرنَ على الخضوع لها، وبدأنا نرى الأفراد أكثر جرأةً في التعبير عن ميولهم الجنسية، وكذلك بدأنا نرى الأفراد يتكتّلون بجماعاتٍ ليعبروا عن أفكارٍ يتشاركونها تتعارض مع رغبة الحُكّام ورجال الدين وكل من ينصّبون أنفسهم ممثلين للمجتمع ورؤساءً لأفراده.
بدأ الناس يناقشون أبسط حقوق وحريات الإنسان وبدأوا يناقشون شكل الدولة وأسسها ووظائفها فيما إذا كان منها التدخل بحياة الأفراد أم لا، وما هي حدود تدخلها، وبدأوا يناقشون معنى المصلحة العامّة والنظام العام والآداب العامّة التي استُخدمت لعقودٍ طويلة كمسوّغٍ لقمع حريات الأفراد بما يتناغم مع مصالح الجماعة السياسية والدينية الحاكمة.
وفي ظلّ هذا بدأت الأصوات تتعالى مطالبةً بتطبيق العلمانية على غرار الدول الغربية، وتعرّضت هذه المطالب لهجومٍ شديدٍ من رجال الدين ومن شريحةٍ من المؤمنين الأصوليين، كما الديمقراطية سابقًا، فهم يعتبرونها كفرًا ونبتًا شيطانيًا ومفهومًا إلحاديًا مدسوسًا من الإمبريالية والصهيونية لإفساد المجتمع الإسلامي، ولا يرون في الحضارة الغربية إلا شذوذًا ودعارةً، ومجونًا وخلاعةً. فهؤلاء لا يتصوّرون الإنسانية بلا دين، وبتعبيرٍ أدق بلا دينهم نفسه! والذين يرون أنّ الإنسان المجرّد من الدين هو مجرّدٌ من الروح !! ولكن في الحقيقة الدين لا يحتكر الحياة الروحية؛ فالروح تعيش في الثقافة الإنسانية الغنيّة، حيث أنّ العلم والفلسفة والرسم والنحت والتمثيل والرقص والغناء والموسيقا وتنسيق الحدائق والزهور وغيرها، هي أشكالٌ من الحياة الروحية أيضًا؛ فهي تشبع الرغبات الروحية وتشذّب الجانب المادي من الإنسان وتبعث السعادة في روحه والسكون في نفسه وتحرره من المشاعر السلبية كالخوف والغضب.
ولحداثة النقاش حول العلمانية في الشارع العربي وقلّة الدراسات التي تناولت هذا الموضوع فيه بالأخص من الناحية القانونية، ولأهميّة الدور الذي تلعبه العلمانية لكفالة التطبيق الأمثل لمبدأ المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية، ارتأيت ضرورة كتابة عدّة مقالات متتابعة تتناول شرحًا مفصّلًا لمفهوم العلمانية وجميع جوانبها.
أولاً: العلمانية لغةً:
إنّ كلمة العلمانية في الإنكليزية (Secularism) مشتقّة من الكلمة اللاتينية (Saeculum) التي تعني العصر أو الجيل أو القرن. واتّخذت هذه الكلمة معنىً خاصاً في اللاتينية الكنسيّة يشير إلى العالم الزمني لتمييزه عن العالم الروحي. وعرّف قاموس أكسفورد كلمة علماني (Secular) بما ينتمي للحياة الدنيا وأمورها ويتميّز عن حياة الكنيسة والدين، وكل ما هو مدني وعادي وزمني، وغير معني بخدمة الدين وغير مكرّس له، فتُستخدم الكلمة مثلاً للدلالة على المباني غير المكرسة للأغراض الدينية فيُقال ” المباني العلمانية “.
ويرى الفيلسوف هنري بينا رويز أنّ أصل كلمة العلمانية لغوياً هو الكلمة اليونانية (Laos)، والتي تدل على وحدة السكان كوحدةٍ متكاملةٍ غير قابلةٍ للتجزئة. فالفرد العلماني هو الفرد الواحد من الشعب الذي لا تميزه أيّ حقوقٍ عن الآخرين ولا ترفعه إلى مرتبةٍ أعلى منهم. ومنه فالوحدة الاجتماعية للسكان يُفهم أنّها تتعارض مع الفكرة القائلة بأنّ مجموعةً خاصةً منهم انفصلت عن الوحدة الاجتماعية واعتُرف لها بحقوقٍ أوسع أو بدورٍ قيادي بالنسبة للمجموعة السكانية.
واختلف الباحثون حول ترجمة مصطلح (Secularism) من اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية؛ فهناك العِلمانية (بكسر العين) نسبةً إلى العلم، وهناك العَلمانية (بفتح العين) نسبةً إلى العالم والدنيوية، فيقول البعض أنّ العِلماني (بكسر العين) هو من يتّخذ من المعرفة العلمية المتمّثلة في العلوم الطبيعية نموذجاً لكل أنواع المعرفة، أي أنّه يتبنى وجهة النظر الوضعية، ما يعني عدم اعترافه بالمعرفة الدينية لعدم إمكانية إخضاعها لمعايير العلم. وهناك من يتبنى مصطلح العَلمانية (بفتح العين وأحياناً بفتح العين واللام) فيعتبرها معنية بدور الإنسان في العالم وبتأكيد استقلالية العقل الإنساني عن الدين عند توظيفه في أيّ مجال، دون أن يتّخذ موقفاً من طبيعة المعرفة العلمية وعلاقتها بالمعرفة الدينية، هذان المعنيان يؤدي كلٌّ منهما إلى الآخر، فالاهتمام بأمور هذا العالم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاهتمام بالعلم.
ثانياً: العلمانية اصطلاحاً:
العلمانية من حيث القانون هي توزيع السلطة العامّة على مجموع الشعب السيد ضمن الاحترام الصارم لحرية المعتقد والمساواة.
والواقع الذي تسعى العلمانية إلى تغييره وإصلاحه، هو واقع الخلط بين الدين والسياسة بما هو خلطٌ غير منتجٍ ومصدرٌ من مصادر فساد الحياة الاجتماعية السياسية وخراب الدولة، ويتجلّى هذا الخلط في إدخال المعايير والقيم الدينية في الممارسة السياسية وفي تداخل السلطة الدينية وسلطة الدولة ممّا يؤدي إلى التضحية بالحريات المدنية لصالح سيطرة السلطة الروحية وما ينجم عن ذلك من حروبٍ دينيةٍ سياسيةٍ مدمرةٍ استنزفت طاقة البشر على مدى قرونٍ طويلةٍ. وهكذا ترى العلمانية أنّ الفصل بين الدين والدولة هو شرطٌ للقضاء على الاستبداد والتمييز بين الناس على أساس قربهم من المعرفة الدينية الصحيحة، وهو شرطٌ لتحرير العقل من الخرافة وإطلاق الروح العلمية والإبداعية.
أمّا في اللغة العربية فلم يستطع أحد تحديد التاريخ الذي ظهرت فيه كلمة العلمانية، فالكتابات الأولى في المنطقة العربية لم تستعمل هذا المصطلح وإنّما كانت تستعمل مصطلح ” مدني ” للإشارة إلى المؤسسات ذات الأسس اللادينية، فكان يُقال سلطة دينية وسلطة مدنية، ويُقال حاكم مدني، كما ظهرت في العشرينيات من القرن الماضي دعواتٍ إلى مدنية القوانين.
يتبع …
الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)