مقالات الأعضاء

بين الصراط الأعوج وخناقة مع الناطور

خلال فترة اعتقالي في عام ٢٠١٣، كنت أتساءل، وأنا تحت الأرض، سؤالاً جدلياً لم أقصد به نفسي كفرد بل أي معتقل آخر: لماذا أثناء نقلي إلى الفرع وأنا مطأطأ رأسي في سيارة المخابرات التي تقل أربعة عناصر (شبيحة)، مررت بحشود الأهالي التي يفوق عددها الأربعين شخصاً، ينظرون إلي بشفقة ممزوجة بالألم. لا لأنهم أقل عدداً أو قوة، بل لأنهم عاجزون عن فعل أي شيء حقيقي لسبب لم استطع فهمه بالمطلق! و بالرغم من تفوقهم العددي والأخلاقي، كانوا كالمشلولين تماماً، لا يفعلون شيئاً تجاه كل ما يجري حولهم. و أنه كان من الممكن أن يكون أي واحد منهم مكاني. كل واحد دون استثناء كان مرشحاً لتهمة تجعله جالساً في سيارة الأمن يختلس النظر من شق تحت عصبة العين، وهو يساق إلى المصير ذاته الذي كان يخشاه كل سوري في تلك الفترة و أنا كنت أسأل نفسي لماذا تستمر معاناتنا بالرغم من التفوق العددي وتعرضنا جميعاً لنفس الظلم اليومي. و كأنه قصتي مشهد مصغر لقصة كل معتقل أو مظلوم في ظل غياب الإرادة الجماعية الفاعلة، والتي لو اتحدت لنتج عنها وزن حقيقي من شأنه تغيير الواقع كلياً، ولكانت إرادتنا أقوى بكثير من أدوات الظالم الذي كان يصطادنا فرادى حينها، بل لشكّلت درعاً حقيقياً في وجه القهر الواضح و المتكرر دون رادع.

ازداد هذا السؤال قسوة حين كنت أشاهد عدم جدوى أي نشاط أو حديث عن المعتقلين تحت الأرض وغياب القوة الحقيقية التي من المفروض أن تقف لتضع حد أمام هول الفظائع وحتى بعد عام من سقوط النظام لم تنصف قضيتهم. كان المعتقلون يموتون وحدهم، رغم أن أجسادهم ملتصقة بأجساد من يشاركونهم المصير ذاته. عندها، تحول السؤال لهاجس ثقيل: كيف نملك، نحن المعارضين، تفوق عددي واضح في مواجهة عصابات الإجرام، ومع ذلك نعجز عن إنقاذ المعتقلين ولا يوجد إرادة جماعية موحدة توجه ضربة قاسية لقبضة الحديد والنار التي تسحق السوريين بأقسى ما يمكن. وتقف تلك الإرادة أمام كل الأطراف الدولية التي ساهمت في إطالة النزف.

بحثت طويلاً بشكل فردي عن إجابة صادقة وسليمة، تتناول سؤالي ولم أصل لأي نتيجة قريبة سوى تجارب ميلغرام في تطور الشر وغيرها. و لم استطع العثور على أي فكر أصيل نابع من رحم القضية يتناول الموضوع بمنهج علمي نقدي، موضوعي وحيادي، يفسر غياب الإرادة الجماعية السورية الفاعلة. حتى انضمامي للتجمع الديمقراطي المدني وبعد العثور على ندوة للأستاذ صلاح الرفاعي عرضت على اليوتيوب في عام ٢٠١٥، شاهدتها مؤخراً بعد مرور عشر سنوات على نشرها. وقد شكلت تلك الندوة مع ندوات أخرى، نقطة تحول أساسية في فهم ما جرى قبل وخلال الثورة بل وتقدم سياق كامل منطقي للإتجاه الصحيح للوصول إلى بر الأمان في سوريا.

من منظوري الشخصي، بعد مشاهدة الندوة بدا لي جلياً كيف أن معظم المتحدثين وأصحاب الآراء والسياسيين انشغلوا بالصراع مع “الناطور” وتركوا “العنب”. بطريقة بدا لي أنه لم تُعالَج قضية عدم قدرة السوريين على الإلتفاف حول إرادة واحدة تقيهم شر النظام السابق بصدق ومنطق، بقدر ما أُشبعت المنابر الإعلامية بالخطابات والانفعالات التي لم ينتج عنها سوى آراء مهدورة.

بدأ الأستاذ صلاح الندوة بطرح إشكالية جوهرية، مفادها أن الحالة النقدية لما جرى في سوريا خلال الثورة تفتقر إلى الموضوعية، لأن معظم النقّاد يسقطون آراءهم الشخصية ومشاعرهم على الواقع، فيتحوّل النقد إلى أداة للتعبير الذاتي، بدل أن يكون نقداً تحليلياً يأخذ الموضوع من زاوية واسعة، ويمهّد لحوار جماعي يمكن أن يفضي إلى نتائج عملية.

وعوضاً عن تعدد الخطابات العشوائية، ووجود حالة من الجزم واليقين لدى معظم من تناولوا الشأن السوري بأن الإرادة الشعبية لم تترجم على أرض الواقع، يعلمنا الواقع درساً قاسياً : لم يسقط النظام حتى عام ٢٠٢٤، وحتى بعد سقوطه، لا يزال القارب السوري يتخبط في غياهب المجهول، ولم نصل إلى برّ الأمان، كنتيجة حتمية لغياب العمل الجماعي المنظّم المتمثل بالحراك المدني بوصفه شرط أساسي لبناء الدولة الحديثة.

ويتابع الأستاذ صلاح موضحاً أن الوعاء الطبيعي للحوار والنقد ليس العمل السياسي ولا الحراك الثوري، بل الحراك المدني. ويذكر بأن مجرد اندلاع الثورة في درعا كان بحد ذاته انتصارا، لأن فكرة قيام ثورة في وجه نظام قمعي عتيد تكاد تكون مستحيلة، ولقد مكن هذا الاندلاع السوريين، ولو جزئياً، من التعبير عن آرائهم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، دون خوف.

ويشير إلى خطأ جوهري في وعي السوريين بتلك المرحلة، حين ظن كثيرون أن الثورة ستلبي كامل احتياجاتهم وطموحاتهم. فالثورة، بحسب توصيفه، ليست الدواء الشافي، بل سيارة إسعاف تنقل المريض إلى بيئة تسمح بالعلاج. وانتصارها الحقيقي يكمن في اندلاعها، لا في قدرتها على إنجاز كل التحولات المطلوبة.

واقع اليوم لا يخرج عن هذا الإطار ومن المهم إدراك أنه بالرغم من انتهاء الثورة لكن لا تزال المشكلة في عدم فهم المرحلة: طروحات سياسية لا تنتهي، وجدالات بيزنطية، ووجهات نظر تتباهى بفرادتها، لكنها لا تنتج رؤية مشتركة قابلة للبناء. تلتقي هذه الرؤى أحياناً مصادفة، ثم ما تلبث أن تتنافر وتتشظّى من جديد. ولا يوجد حتى على مستوى الخيال بين أصحاب الرأي السوريين اتفاق واضح على شكل الدولة الحديثة، ليس بسبب غياب الأفكار أو شكل السلطة الحالي، بل لأن كل فكرة تسير في اتجاه مختلف، في ظل غياب إطار جامع للحوار، رغم أن هذا الإطار موجود أصلاً بحد ذاته، ويبدأ من الرغبة العامة بالانخراط في الحراك المدني لأنه يمثل الوعاء الذي يحتضن الحوار وينظمه ليخرج منه بثمرات يمكن تطبيقها على أرض الواقع لننتقل للحوار الوطني بالشكل المنطقي والصحيح بدون تخطيه للوصول للنتيجة المرجوة في نهاية المطاف.

يفسر الأستاذ صلاح هذا التشتت بسبب غياب عقد اجتماعي صريح وواضح، و أيضاً لغياب الحوار المعمق و الحر بين مكونات المجتمع. فالحوار بين السوريين في مرحلة الثورة كان أقرب للعبء و الخوض فيه مخاطرة، واليوم ضرورة تأسيسية لا مفر منها. على عكس القيم الثورية التي انتهى دورها و دور السلاح.

في هذا الطرح وجدت إجابة عن سؤالي الأول: لماذا فشل التفوق العددي للمعارضة في تحقيق انتصار فعلي؟ لأن هذا التفوق لم يتحول إلى اتفاق موحد وجهد جماعي موجه ضمن إطار واضح. آنذاك، لم أكن مدركا أن الثورة مرحلة تختلف عن الحراك المدني الذي يفترض أن يليها، لكن ما لفت انتباهي لاحقا هو اعتماد هذا التحليل على دراسات منهجية، سلطت الضوء على عمق الشرخ الاجتماعي والأمراض المجتمعية التي أعاقت القدرة على الوصول إلى نتائج مشتركة وعمل جماعي منظم كان من شأنه تغيير الواقع بشكل جذري للأفضل.

يلخّص الأستاذ صلاح نتائج هذه الدراسات بعدة نقاط أساسية، أبرزها:
حالة “الخلاص الفردي”، التي أفرزت شخصية سورية متناقضة بين ما تؤمن به أخلاقيا وما تفرضه السلطة المستبدة، يرافقها وجود نشوء رقيب داخلي لدى كل فرد لتفادي بطش الأجهزة الأمنية. ويعيش الأفراد أزمة إنسانية دائمة بين الحق والسلوك الذي يضمن النجاة بالذات، وتتراوح هذه الحالة من أقصى درجاتها المتمثل بالنفاق التام، وأدنى درجاتها يتمثل في الإنسحاب الكامل من أي موقف يتطلب إعلان رأي صريح.

القاسم المشترك بين هذه الحالات هو الإحساس بالضعف والضآلة و اللاقيمة، وهي حالات لا يُعترف بها بين الأفراد السوريون و ذواتهم، لأن الاعتراف الأول يفتح باباً لاعترافات أعمق وأكثر إيلاماً. يضاف إلى ذلك ترسيخ تابوهات فكرية زرعت في الوعي السوري خلسة، وما زال كثيرون يدافعون عنها دون إدراك، إلى جانب مفاهيم لغوية وفكرية اختلطت معانيها الأصلية. و في هذا المسار أيضاً هنالك حالة طاووسية معقدة، كرد فعل دفاعي نتيجة تعرض الأفراد للقهر الشديد و الطويل.

هذه الأمراض الاجتماعية المنتشرة جعلت الحوار بين السوريين عديم الجدوى، لأنه يصطدم بعجز عميق عن الإعتراف بالمشكلة أمام الذات قبل الآخرين.

بالنسبة لي، شكل هذا الطرح الذي جاء في الندوة منعطفاً داخلياً نادراً. أشار للمشكلة و الحل معاً، بل و قدّم فيه الأستاذ صلاح تفسيرا مسؤولا، قائماً على البحث والمنهج، و أبعد ما يكون عن التكهّن الأعمى والخوض في الطرق العشوائية في محاولة لإعادة إختراع العجلة في سياق الوصول لدولة مدنية قائمة على المواطنة. و رأيت في كلامه نضج فكري يقلب الطاولة على معظم التيارات الفكرية والسياسية السورية المعاصرة، التي ما تزال، في نظري، تسير على صراط أعوج لن يستطيع أحد عبوره ولكن السقوط في جحيم دائرة لا متناهية من تكرار نفس الأخطاء، بينما أنا وغيري نراقب ما يجري لبلدنا وأهله بألم و قلق.

ومن هذا المنطلق، أرى أن طرح الأستاذ صلاح أصيل في الفكر السوري، لأنه يورق من تربة الواقع الذي نعيشه، ويحمل طابع تنويري مصمم بشكل دقيق ليناسب المجتمع السوري. فهو لا يتخذ النقد غاية بحد ذاته، لكنه يبني الأساس الصحيح و الصادق بناء على التشخيص الدقيق، لأنه اعتمد المنهجية العلمية في تحليل المجتمع والفكر بشفافية وصدق عاليين، سواء بالإيحاء أو المباشرة. لذلك أعتبر هذا الطرح و بنظري المتواضع جداً على أنه أول شعلة ملموسة في طريق الثورة الفكرية الحقيقية باتجاه النهضة في سوريا، وقد تمتد لأبعد منها جغرافيا لاحقاً. تلك الفكرة الأخيرة ترعب كياني فرحاً و استحضر شعور ذو قيمة خاصة وأنا أستمع إلى ندواته، لأنها تجيب عن أسئلة عجز كثيرون غيره عن السير بمحاذاتها.

بقلم ابراهيم كزالة
صديق الحركة المدنية السورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى