
سوريا بين الرياض وواشنطن: شرعية مشروطة وثمن سياسي مرتفع
لم يعد المشهد السوري كما كان قبل أيام قليلة. خطوة لافتة في مجلس الأمن، وزيارة مرتقبة للبيت الأبيض، يعيدان رسم موقع دمشق في ميزان الشرعية الدولية. ففي سابقة تُعدّ الأهم منذ وصول الرئيس السوري أحمد الشرع إلى السلطة، حيث رُفع اسمه واسم وزير داخليته أنس خطاب من قوائم الإرهاب الدولية، في قرار بدا أقل من “مراجعة قانونية دورية”، وأكثر من إشارة سياسية محسوبة فتحت نافذة محدودة لإعادة إدماج مدروس لسوريا على الساحة العالمية، مع مراقبة لصيقة لسلوك دمشق في المرحلة المقبلة.
مقاربة أميركية – دولية للشرعية
وتستعد واشنطن، بقيادة دونالد ترامب، لاستقبال الشرع هذا الشهر في زيارة توصف بالتاريخية، كونها الأولى لرئيس سوري إلى البيت الأبيض منذ عقود. غير أن رمزية المناسبة لا تعني اعترافاً أو تفويضاً مجانياً، فالزيارة تأتي في ظل مقاربة أميركية–دولية جديدة لمنح الشرعية: رفع تدريجي للعوائق مقابل التزامات قابلة للقياس، لا انقلاباً كاملاً في الموقف. وفي الخلفية، يلوح تداخل غير معلن بين التحرك الأميركي الأخير ومصالح أطراف أخرى، لا سيما إسرائيل، التي تنظر بعين دقيقة لأيّة خطوة تُعيد تأهيل دمشق من دون ثمن واضح على طاولة الجنوب السوري والمسار الفلسطيني.
هذه التطورات تعيد تشكيل المعادلة: الشرع يدخل واشنطن من بوابة “تخفيف عقوبات انتقائي”، لا من بوابة “اعتراف سياسي”، في حين تضع إسرائيل سقفاً تفاوضياً صارماً: لا شرعية للنظام الجديد في دمشق بدون مقابل يُحصّل على ملفي فلسطين والحدود.
وإذا كانت واشنطن تفتح نافذة “اختبار دولي مشروط”، فإن الرياض كانت قد قدمت النموذج العربي الأول لهذا الاختبار، وإن بشروط مختلفة. فزيارتها سبقت واشنطن ورسمت سقفاً عربياً للقبول، كشف أن طريق الشرعية – سواء في الخليج أو في البيت الأبيض – لا يمر عبر الرمزية؛ بل عبر التنازلات القابلة للقياس.
لم تحمل زيارة الشرع إلى الرياض التحول الذي رُوِّج له قبل حدوثها، ولم تُحدث اختراقاً في جدار الاعتراف أو الدعم المالي الخليجي؛ بل كشفت بوضوح معادلة جديدة تتشكل حول سوريا: المال بشروط، والشرعية بثمن، والأمن قبل السياسة.
خرج الشرع من الرياض بترتيبات دبلوماسية متواضعة ورسائل سياسية أكثر صرامة من أي وعود، في الوقت الذي تتشابك فيه أجندات عواصم كبرى في الملف السوري: السعودية وقطر وتركيا وواشنطن، إضافة إلى إسرائيل، مع ظل روسي حاضر لا يغيب.
رسالة سعودية مباشرة
ما قبل الزيارة بُني على أوهام. الحديث عن مشاريع سعودية تتجاوز ستة مليارات دولار، أو استقبال ملكي حافل، أو دعم سياسي غير مشروط، تبخر بمجرد أن حطت الطائرة. اللقاء مع ولي العهد تم على الهامش، والبيان كان عادياً، بلا اتفاقات أو خريطة طريق اقتصادية. الرسالة السعودية كانت مباشرة، لا شرعية مجانية، ولا أموال قبل إصلاحات تثبت أن الدولة تتقدم على منطق الفصائل والعشائر والاقتصاد الرمادي.
في أصل الموقف السعودي أربعة هواجس مركزية. أولها العشائر، وهي نقطة ارتكاز الشرع داخلياً، لكنها مصدر ارتياب في الرياض التي ترى أن أي تسييس أو عسكرة للقبائل يعيد منطق “الولاءات الموازية”، ويهدد نموذج الدولة المركزية الذي تتمسّك به المملكة. وثانيها الدور التركي الصاعد في هندسة الأمن السوري؛ إذ ترفض السعودية رؤية “نموذج نفوذ تركي طويل الأمد” يتكرر في سوريا كما حصل في شمال العراق. أما ثالثها فهو مسار الشرع نحو موسكو كغطاء تسليحي لتمرير تدريبات تركية، وهو مسار يُعيد سوريا إلى فلك تركيا–روسيا بدلاً من العمق العربي. ويبقى الشرط الرابع الأكثر حسماً: مكافحة المخدرات وغسل الأموال كمدخل لأي تمويل سعودي، في ظل اعتبار الرياض أن “اقتصاد الكبتاغون” بات تهديداً داخلياً، وليس مجرد ملف حدودي.
قطر بوصفها عامل توازن
في الخلفية، تقف قطر كلاعب توازن، تتقاطع مع السعودية في إبطاء أي اندفاع سوري نحو تطبيع مجاني مع إسرائيل، وإن اختلف الدافع. الرياض تربطه بالإصلاح والمؤسسات، في حين تراه الدوحة ورقة ضغط لحماية المسار الفلسطيني. المعنى: لن يُفتح باب التطبيع السوري–الإسرائيلي قبل أن تتضح معادلة غزة–الضفة–حل الدولتين.
على الضفة الأخرى، تُمسك واشنطن بمفتاح خريطة الطريق، لكن بشروط قاسية. الأميركيون يفكرون بمنطق “جدوى استراتيجية” لا “مكافأة سياسية”. أيُّ دعمٍ للشرع يمر عبر ثلاثة ممرات: أولها اتفاق أمني مع إسرائيل يضمن ضبط الحدود ومنع أي تموضع جهادي أو إيراني في الجنوب السوري، ثم ترتيبات أمنية مشتركة قد تشمل قوات رمزية أميركية وعربية في نقاط حساسة مثل القنيطرة، وأخيراً رفع جزئي لأسماء من لوائح الإرهاب، لكن ثمنه “تفكيك ملموس لهيئة تحرير الشام”، ليس شكلياً ولا خطابياً. وقرار مجلس الأمن الأخير برفع اسم الشرع كان مؤشراً أولياً ضمن سياسة “تخفيف انتقائي للعقوبات” لفتح الباب أمام اختبار، لا منحه صك شرعية.
كلفة المطالب الأميركية
هنا تكمن معضلة الشرع الأخطر. هو يحتاج إلى شرعية خارجية، لكنه يخشى كلفة الخطوات التي تُطالبه بها واشنطن لأنها قد تفجر الداخل، فتفكيك الهيئة يهدد توازنات الشمال، ودمج “قسد” يثير أنقرة والعشائر، وضبط العشائر يقلص سنده الاجتماعي، وتخفيف الدور التركي يُفقده الرافعة الأمنية السريعة التي يحتاجها.
أما إسرائيل، فتقف في مكان مستقل تماماً. لا استعجال للاعتراف بالشرع، ولا استعداد لفتح بوابة سياسية قبل تحصيل ثمن واضح في الضفة الغربية ومسار الحل مع الفلسطينيين. تل أبيب حققت مكاسب حدودية بعد سقوط الأسد ولن تتخلى عنها من دون مقابل استراتيجي. والرسالة التي تنقلها للإدارة الأميركية واضحة: “إن أردتم تنازلاً في سوريا… ادفعوا ثمناً في فلسطين”.
وسط هذه الخرائط المتقاطعة، يبدو أن الشرع أمام مفترق طريق لا يتحمَّل المناورة اللفظية. الاعتراف الدولي لن يأتي بخطاب؛ بل بسلوك قابل للقياس. والسعودية لن تستثمر في بيئة أمنية واقتصادية غير منضبطة، والولايات المتحدة لن تمنح “شهادة عبور سياسية” من دون ضمانات لإسرائيل، وقطر لن تبارك مساراً يتجاوز فلسطين، وتركيا وروسيا لن تمنحا مجاناً دعماً بلا أثمان طويلة المدى.
هندسة المرحلة الانتقالية
الخيار الواقعي أمام الشرع ليس الاصطدام؛ بل الهندسة الدقيقة للمرحلة الانتقالية عبر: تحويل العشائر من ذراع أمني إلى شريك مجتمعي غير مسلح، وخطة زمنية شفافة لمكافحة المخدرات والتهريب، ومسار تفكيك تدريجي للهيئة يمنع التفجّر، ودمج مؤسسي منخفض الحساسية لـِ “قسد” لا يستفز أنقرة، وتنويع الشراكات بما يعيد سوريا إلى العُمق العربي تدريجياً.
زيارة الرياض لم تُغلق الأبواب، لكنها وضعت قواعد اشتباك جديدة. أما زيارة واشنطن فستضع سقف الحركة السياسية للمرحلة الآتية. النافذة مفتوحة لكنها ضيقة، وأيُّ خطأ في الحساب قد يعيد دمشق إلى عزلة أطول، خارج الخليج والعالم.
المدن
