أخبار

لماذا يجب إلغاء انتخابات سوريا التشريعية فوراً؟

بعد أيام ستجرى في سوريا عملية يُفترض أنها انتخابية لتشكيل مجلس تشريعي جديد. لكن المؤشرات تُثير شكوكاً جوهرية حول طبيعة العملية ومآلاتهاإذ لا تنبئ بعملية انتخابية تمثيلية، بل تعيد إنتاج منطق التعيين المقنّع غير المؤهل. ففي ظل غياب بيئة آمنة، وانهيار مؤسسات الدولة، وتفكك الهوية الوطنية، يصبح الحديث عن انتخابات حرة ونزيهة أقرب إلى التزييف منه إلى التأسيس. وما يُحضَّر له ليس انتقالاً ديمقراطياً، بل تكريس الولاء وإعادة تدوير بعض أدوات النظام السابق بأسماء جديدة. ومع اقتراب الموعد، تتكشف يومًا بعد يوم ممارسات تفضح جوهر العملية: طعون بلا بيّنات، انسحابات جماعية، وتعيينات مشبوهة، ما يستدعي وقفة وطنية جادة لوقف هذه المهزلة قبل أن تُكرّس كأمر واقع.

الأخطر من ذلك، أن الطعون الانتخابية تحوّلت إلى أداة تصفية سياسية. كشفت شهادات موثقة أن لجان الطعون قبلت استبعاد مرشحين بناءً على شهادة شاهدين فقط، من دون أي بيّنة قانونية، مما أدى إلى إزاحتهم مباشرة من القوائم. هذا الخلل استُغل من قبل بعض المرشحين لإقصاء منافسيهم، كما حدث في درعا والقنيطرة، حيث تم استبعاد ناصر الحريري من دون منحه حق الطعن أو الاطلاع على ملفه. والأخطر أن المرشحين لم يُمنحوا حق معرفة هوية مقدّمي الطعون، ما يكشف عن منظومة قضائية عاجزة عن حماية الحقوق.

في محافظة القنيطرة، لم يكن التهميش مجرد شعور، بل تحوّل إلى موقف جماعي معلن. انسحب حتى الآن سبعة أعضاء من الهيئة الناخبة، بينهم د.خديجة هايل المحمد، ود.مروة عثمان، بيان شنوان، وآخرون، احتجاجاً على ما وصفوه بـ”تزوير الإرادة” و”تهميش الثوار”. فقد كتبت د.خديجة في بيانها: “لن أكون كومبارس في مسرحية تم تأليفها بركاكة مهينة لإرادة السوريين… لسنا طلاب مناصب، إنما نحن جنود في عملية التغيير نحو مستقبل مشرق لوطننا، وأبسط ما ننتظر أن يُبنى عليه هو احترام إرادة الناس وكراماتهم”. وأشارت مصادر محلية إلى أن أغلب المنسحبين هم من أعمدة الثورة وقياداتها البارزة. 

وفي محافظة حمص، لم يكن الجدل أقل حدة، لكنه اتخذ طابعاً أكثر تعقيداً. الناشطة المعروفة سليفا كورية كتبت شهادة علنية على صفحتها، أوضحت فيها أنها تقدمت بستة طعون، ثلاثة منها كانت مدعّمة بأدلة قوية وتم قبولها، بينما لم تكن الوثائق المتوفرة للبقية كافية. وفي الوقت نفسه، أشارت إلى أن فترة الثلاثة أيام لم تكن كافية لجمع الأدلة، وأن بعض الأسماء المقبولة يفتقرون للكفاءة ومعروفين بالانتهازية والفساد، وأن مسؤولية استبعادها تقع على من لم يقدّم ما يكفي من إثباتات. هذه الشهادة لا تكتفي بالنقد، بل تدعو إلى بناء تحالفات داخل الهيئة الناخبة لإيصال المرشح الكفء النظيف، القادر على تمثيل حمص كما يليق بتضحيات أهلها. وتضيف أن الآلية المتبعة، رغم تحفظاتها عليها، لا تستدعي المقاطعة بل تستوجب العمل على إنجاح من يستحق. 

وفي ريف دمشق – مدينة سقبا، تم التلاعب في تشكيل الهيئة الناخبة نفسها، حيث أقدمت اللجنة الانتخابية على إزالة اسمين من الهيئة من دون مبرر قانوني واضح، واستبدالهما بشخص وابن أخته، في خطوة أثارت غضب الهيئة الناخبة، التي هدّدت بالانسحاب الجماعي ما لم يُعاد العضوان المستبعدان. هذه الواقعة لا تثير فقط شبهة المحاباة، بل تكشف عن منطق التعيين العائلي، الذي يُفرغ الهيئة الناخبة من استقلاليتها، ويحوّلها إلى أداة ولاء لا تمثيل. إن إدخال علاقات القرابة المباشرة في بنية التمثيل يُعيد إنتاج شبكات النفوذ داخل المؤسسات، ويُضعف الثقة في العملية برمتها.

لم تقتصر ردود الفعل على الانسحابات والطعون، بل امتدت إلى وسائل التواصل الاجتماعي، على شكل ردود من مختلف المحافظات مصحوبة بتعلقيات ساخرة تعكس حجم الاستياء من الطريقة التي تُدار بها العملية. فقد كتب المحامي فراس عابدين منشوراً ساخراً يقول فيه: “الطريقة التي تُدار فيها انتخابات مجلس الشعب هي من أسوأ الطرق في العالم، بل فريدة من نوعها على هذا الكوكب. اختيار الهيئات الناخبة تم عن طريق المحسوبيات والواسطات، واختيار المرشحين يتم عن طريق مشايخ السلطة والهيئات السياسية في المحافظات، والمال السياسي يلعب دوراً كبيرأ في هذا الأمر. وبالطريقة ذاتها تماماً سيتم تعيين 70% من النواب، وهي حصة رئاسة الجمهورية. ويختم منشوره بقوله: “الانتخابات والديمقراطية بمنتهى الشفافية!” هذا النوع من الخطاب، رغم نبرته الساخرة، يعكس شعوراً واسعاً بأن ما يجري لا يمتّ بصلة إلى التمثيل الحقيقي، بل يُعيد إنتاج منطق التعيين والولاء، ويُفرغ العملية من معناها التأسيسي.

هذه الوقائع تكشف أن ما يجري ليس خللاً عابراً، بل أزمة بنيوية في آلية التمثيل نفسها. لذلك، فإن الدعوة الآن إلى وقف هذه العملية الانتخابية لا تنبع من رفض مبدئي لفكرة التمثيل، بل من إدراك عميق لخطورة إعادة إنتاج الإقصاء تحت غطاء شكلي. وإذا كانت الأزمة البنيوية في آلية التمثيل قد باتت واضحة، فإن جانباً آخر لا يقل خطورة يتعلّق بسوء الفهم العام لوظيفة المجلس التشريعي نفسه. إذ يتعامل كثر من المرشحين مع الترشح للمجلس كمدخل لتقديم خدمات محلية، ما يعكس تصوراً مشوّهاً لطبيعة الدور الدستوري للمجلس. فالمجلس ليس جهة تنفيذية، بل سلطة تشريعية ورقابية، مهمتها سنّ القوانين وتعديلها أو الغائها ومراقبة الحكومة، لا إطلاق الوعود الخدمية.

في مواجهة هذا الانسداد، في آلية التمثيل وفي فهم وظيفته، لا يكفي أن نكتفي بالنقد أو نراهن على إصلاح جزئي. بل من الحاجة، في هذه الظروف التي يتعذر فيها إجراء انتخابات عامة نزيهة وشاملة، إلى ضمان وصول أشخاص قادرين فعلاً على أداء وظيفة المجلس التشريعي بما يليق بثقل المرحلة. أشخاص يمتلكون مؤهلات حقيقية في التشريع، القانون، الاقتصاد، الإدارة العامة، وعلم الاجتماع، ويستطيعون تحويل المجلس من منصة شكلية إلى سلطة تأسيسية فاعلة. 

هذه المقاربة لا تتجاوز الإرادة الشعبية، بل تحاول حمايتها عبر اعتماد آلية تعيين تستند إلى الكفاءة والخبرة والاختصاص، هذا الخيار، وإن بدا استثنائياً، هو محاولة لتفادي إخفاقات سابقة، أبرزها مؤتمر الحوار الوطني، الذي اختزل إرادة السوريين بساعتين، وخرج بمخرجات لا تليق بتضحياتهم. وإن إعادة إنتاج التمثيل المصطنع لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام وفقدان الثقة، وتعيد إنتاج منطق الوصاية الذي ثار السوريون ضده. لذلك فإن إلغاء هذه العملية من أساسها، والبدء بتأسيس مجلس مؤقت عبر آلية تأسيسية نزيهة، هو ليس فقط خياراً عقلانياً، بل ضرورة وطنية وأخلاقية.

إن الدعوة إلى تأسيس مجلس مؤقت عبر آلية نزيهة لا تمثّل انسحابًا من المجال العام، بل محاولة جادة لإعادة بناء أدوات التمثيل على أسس تليق بتضحيات السوريين. وتُخرجهم من موقع المتفرج إلى موقع الفاعل. فإما أن نعيد بناء أدوات التمثيل على أسس جديدة، أو نعيد إنتاج الإقصاء بأسماء مختلفة. والاختبار الحقيقي ليس في الشكل، بل في القدرة على تأسيس شرعية تستند إلى الكفاءة، وتحترم الإرادة، وتُبنى على الجرأة الأخلاقية لا المكاسب والمناصب.

المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى