مقالات الأعضاء

العلمانية (9): تطوّر علاقة الدولة بالدين عبر التاريخ في أوروبا ذات الأغلبية المسيحية (1)

لم تعرف المجتمعات الإنسانية لمرحلةٍ طويلةٍ من تاريخها أيّ تناقضٍ أو تنازعٍ بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، فقد كان الكهنة في جميع المجتمعات القديمة التي تعاقبت على بلاد الرافدين وكذلك مصر الفرعونية وآسيا، جزءاً لا يتجزأ من السلطة السياسية، فالديانات عامّةً كانت من لوازم المُلك الطبيعية وكان تقديس الملوك عنصراً جوهرياً من عناصر تكوين السلطة. فكانت هذه العلاقة المتميزة بين السلطة والدين شرطاً لا غنى عنه لبناء مجتمعاتٍ متعاونةٍ ومتضامنةٍ بين أفرادها ولخلق التواصل والتداول المعنوي والمادي لتحقيق نمو الحضارة وتقدمها كما كانت العنصر الوحيد لإضفاء الصفة الشرعية على القوة القهرية التي كانت تباشرها السلطة الزمنية على الجماعات الأهلية المشتتة والمتنوعة، وكانت العنصر الحاسم الذي يفرض على الناس احترام وتقديس القانون.

وهكذا كان الملك الإله هو رمز هذه السلطة المقدسة ومصدر شرعيتها كما تشير إلى ذلك بقايا فكرة الإمبراطور الإله في اليابان الحديث، فالسلطة كانت في كل مكان وزمان قائمة على عنصرين تجمعهما صلةٌ وثيقةٌ لا يمكن لأحدهما أن يسير ويعمل دون الآخر؛ عنصر الإيمان النابع من التصديق والثقة والانخراط الطوعي وهو ما يسمى أحياناً عنصر الترغيب والإقناع، بالإضافة إلى عنصر القسر والردع والقوة وهو ما يسمى بعنصر الترهيب. وقد استمر هذا الحال لآلاف السنين ولم يكن يخطر ببال أيّ رجل دين الوقوف بوجه سيده الحاكم أو الاختلاف معه أو حتى الانفصال عنه، فلقد كانت مهمة الكاهن الوحيدة هي خدمة الحاكم وتبجيله وإضفاء القداسة على سلطته حتى ينتهي به الأمر إلى عبادته والخضوع الكامل له.

وكان الملوك يسيطرون بشكلٍ مطلقٍ على الوظيفة الدينية وتوجيه النشاط الديني سواء فيما يتعلق بتعليم الكهنة أو بناء المعابد ورعايتها أو تنظيم الاحتفالات والأعياد، ليوظّفوا النشاط الروحي في تحقيق قبول السلطة والحكم، بل وحتى كان الملوك هم الذين يغيّرون طقوس العبادات التي يشكلون مركزها وكذلك الآلهة المعبودة التي يمثلونها ويقترحون آلهةً جديدةً أو يشجعون الإيمان ببعض الآلهة فقط إمّا لتعلقهم بها أو سعياً منهم لتجاوز الأديان القبلية الجزئية عبر إلهٍ جديدٍ يتعدى الإيمان به القبيلة التي أنتجته.

 ومن هنا لا نزال نقول بالعربية الناس على دين ملوكهم؛ ويقصد بذلك أنّه لم يكن من الممكن أبداً تصوّر أيّة جماعة ذات كيان مستقل دون أن يكون لها دينها الخاص.

وهنا يجب توضيح طبيعة الأديان الوثنية التي سمحت بهكذا اندماج بين السلطة والدين؛ حيث كانت الإمبراطوريات القديمة ذات أديانٍ ضئيلة المحتوى العقائدي لكن كثيفة الطقوس، وهذا جعل من السهل على آلهة الجماعة المغلوبة في الحرب أن تندمج مع آلهة الجماعة المنتصرة دون أن يترتب على ذلك أكثر من اندماجٍ اسمي على صعيد الديانة وإن كان هذه الاندماج يفضي إلى وحدةٍ دينيةٍ أوسع دون وقوع قسرٍ عقائدي.

فلم تكن في الإمبراطورية الرومانية مثلاً متطلبات دينية تفوق عبادة الإمبراطور الذي هو عملياً طقس عبادي تجاه الإمبراطورية دون أن تترتب عليه نتائجٌ عقائديةٌ، فالوثنية تآلفيةٌ في العمق.

لكن عندما يتم الحديث عن عبادة الإمبراطور أو الإمبراطورية يجب تحديد المقصود بالعبادة كي لا يتم إسقاط مفهوم العبادة الذي جاءت به الأديان السماوية على واقع الأديان الوثنية؛ فعقيدة عبادة الأباطرة يجري استعمالها بطريقةٍ مضلّلة، إذ لم يحدث قط إلّا فيما ندر، أن أقيمت شعائر العبادة للإمبراطور في حياته ولكن كان يُضم الحاكم العظيم في العالم القديم بعد وفاته إلى قائمة أسماء من تعبدهم الإمبراطورية وبذلك يصبح إلهاً، لكن هذا لا ينفي أنّ الأباطرة كانوا يوحون للناس بأنّهم آلهة وأنّهم يمنحون البركة ويظهر ذلك من الطقوس التي كانت تحيط بموكب الإمبراطور.

فمفهوم العبادة كان له دلالاتٍ مغايرةٍ لما أتت به الأديان السماوية، حيث كان المُتعبّد يدعو الآلهة إلى صون الإمبراطورية وإطالة عمر الإمبراطور وأن تمنّ عليه بالثروات والمحاصيل الوافرة، مقابل ما يقدمه هذا المُتعبّد من تكريمٍ لائقٍ لهذه الآلهة، ولكن إذا لم تفِ الآلهة بالتزاماتها فالويل لها؛ إذ تُحرم من المذابح وتُمسخ صورها وتُقذف معابدها بالحجارة. فالوثني لم تكن لديه آلهةٌ دائمةٌ وإنّما يغيّرها باستمرار حسب ما تجود به من منافعٍ يعتقد أنّها هي من منحته إيّاها، فغالباً ما كان الوثني يهجر إلهه أو يرميه في الصحراء أو حتى يأكله إذا كان من المأكولات.

وما ينفي أيضاً أن يكون الناس في العالم القديم قد اعتقدوا بألوهية الأباطرة هو أنّ الأباطرة أنفسهم كانوا يدعون الآلهة لحماية الناس وتوفير العون للإمبراطور، فقد كان يرى الإمبراطور في نفسه مجرد خادمٍ للآلهة وفي أقصى الحالات مفوّضٍ بأمرها. وما سبق كلّه كان سبب غياب النزاع والتناقض بين الأديان والإمبراطورية، فدور الدين في الإبقاء على عروش الأباطرة وإضفاء المشروعية على تصرفاتهم هو ما جعل هؤلاء أكثر حرصاً على وجود الدين في صفوف الرعايا، ومن هنا جاء تقديس وفرض دين للإمبراطورية، إذ كان من واجب الجميع أن يشاركوا بنصيبٍ ما من الطقوس التي تُقام في الأعياد الكبرى وكانت العبرة بالاشتراك في أداء الطقوس، لكن لم يكن هناك فرض اتباع نواميس معروفة أو تلاوة قوانينٍ معينةٍ للإيمان، فكان يكفي للدلالة على صدق إيمان المواطن انضمامه إلى المواكب في الأعياد بأبهى حلّةٍ واشتراكه في المذابح والقرابين وإطلاق البخور.

من هنا يظهر التناغم الحاد بين السياسة والدين أو بلغة العالم القديم بين الإمبراطور والإنسان الوثني، فالإمبراطور لم يتضرر من وجود عباداتٍ قليلة الطقوس ولا تتضمن أيّة تعاليمٍ سياسيةٍ، وإن وجدت هذه التعاليم فهي تدعو إلى طاعة الإمبراطور. لكن هذا الوضع تغيّر مع أول احتكاكٍ بين الإمبراطورية ودينٍ سماويٍ يرفض عبادة البشر والحجر مقابل عبادة إلهٍ غير مرئي وهنا دخل هذا الدين في صراعٍ مجتمعيٍ مع البيئة العامرة بالآلهة الأرضية، وهذا أساس تعرض المسيحية لمختلف أصناف التضييق خلال القرون الثلاثة الأولى من ظهورها، فالإمبراطورية الرومانية التي أدخلت كل أنواع الآلهة الغريبة إلى دينها القديم وسمحت لرعاياها باعتناق أغرب الأديان والعبادات الباطنية في حياتهم الخاصة، لم تكن لتسمح بأن ترفض المسيحية الانخراط في العبادة الجماعية الوحيدة المتبقية وهي عبادة الإمبراطور. 

فالطفرة التي ميّزت الأديان السماوية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) لا تكمن في إدراك فكرة الله؛ فهذه الفكرة كانت موجودة في جميع الأديان القديمة وكان الوثنيون يعتقدون أنّ التماثيل وسائط تقرّبهم إلى الله لا أكثر من ذلك، فلم يكن هناك من يؤمن حقيقةً أنّ تمثالاً من الحجر يجسد أيّة قيمةٍ استثنائيةٍ بحد ذاته. وكذلك لا تكمن هذه الطفرة باكتشاف مفاهيم الروح والأبدية وغيرها لأنّها مفاهيم شائعة في الديانات اليونانية والسومرية المعروفة. كما أنّ هذه الطفرة لا تتمثل في اختلاف طقوس العبادة؛ حيث بقيت الطقوس ذاتها، فالعرب مثلاً كانوا يطوفون بالكعبة قبل الإسلام، وجميع الشعوب عرفت الصلاة والصوم بشكلٍ أو بآخر قبل نزول الوحي الإلهي.

وإنّما الطفرة الحقيقية التي ميّزت الأديان السماوية هي تحرير فكرة الألوهة عن الملك، بمعنى آخر إرجاع الملك إلى حجمه الطبيعي كإنسان، والارتفاع بفكرة القداسة والألوهة إلى الله الذي يعلو على الكون وعلى الطبيعة وعلى الإنسان، فلم تعد فكرة الألوهة بعد ظهور هذه الأديان تجسيداً لقوى الطبيعة ولم يعد الإنسان يفسر حركة الطبيعة سنداً لمعتقداته الدينية، بل تحوّلت الطبيعة إلى موضوعٍ خاضعٍ للبحث العقلي والعلمي، ولهذا كان من الصعب على المجتمعات والإمبراطوريات الوثنية القديمة أن تتقبل الأديان السماوية، وللسبب ذاته لم ينشأ الصراع بين الدين والدولة إلّا مع ظهورها وفي البلاد التي انتشرت فيها، ففي كل المناطق التي دخلت إليها هذه الأديان تعرضت الدولة لهزةٍ قويةٍ وعنيفةٍ لم تستطع حتى اليوم أن تقوم منها، وحتى في حالة الدول الغربية التي قوّضت السلطة الدينية، لا يزال شبح الكنيسة رابضاً أمامها ولا يزال الخوف من يقظته قائماً، ولذلك تظهر واضحةً الحساسية العميقة للرأي العام لكل ما هو ديني أو مرتبط بالسلطة الدينية.

وسنكمل في مقالٍ لاحق… يتبع…

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى