مقالات الأعضاء

سلسة الاندماج (5): منظومات القيم والأخلاق المختلفة ومُسببات اختلافها

الفصل الخامس والأخير

تكملةً لما سَبق نُتابع الحديث عن منظومات القيم والأخلاق المختلفة لكل شعبٍ أو مجتمعٍ أو دولةٍ وكيف أن ذلك يرسم سياسة الدولة والمُجتمع فيما يتعلق بالاندماج والذي قد يُفسِر اختلاف طريق الاندماج وتبِعاتها بين دولةٍ وأُخرى.

أولًا، يجب أن نكون على دراية ٍكاملةٍ بأنّ لكُل دولة منظمومتها الأخلاقية الخاصة بها وطريقتها الفريدة في تبني وضم الوافِدين الجُدُد إليها والنّابعة من أثر الحوادث التاريخية على مدار وجودها وكيف اتفق شعب هذه الدولة أو تلك على مجموعة قيمها الناظمة لمُعاملاتها، وأيضاً لكُل دولة طريقتها الخاصَة في التعامُل مع الأديان ومُمارسة التعاليم والأوامر الدينية وما إلى ذلك. على سبيل المثال: قيَم الجُمهورية الفرنسية وطَريقتها في تبنِي اتجاه مُعيَن من العَلمانية (التي تُعتَبر جدلية لدى الكثير من أوساط المُتدينيِن عامةً والمُسلمين خاصةً) لا يعني أنّ الشعبَ الفرنسي قررَ فجأةً سلوك اتجِاه مُعيَن في طريقة تدخُل الأديان في حُكم الدولة ومؤسَساتها وما مدى حرية الأديان (والتي ليست متوجهةً ضد المسلمين حصراً)، جاء ذلك من حوادث تاريخية خاصة بفرنسا، إذ عاشت البلاد تحت سُلطة الكنيسة الشَديدة والمُتَجبِرة وذاقَ الفرنسيون شتى أنواع الاضطهاد والقَمع وشَهدت فرنسا الحروب الدينية العنِيفة في القرنين السادس والسابع عشر بين أتباع الملكية والكنيسة الكاثوليكية وفئات المتنورين من الشعب والمُثَقفين المُنَادين بالحُرية والتَحرر من سُلطات الكنيسة والمَلك والتي راح ضَحِيتها الآلاف من الناس وفي بعض الأحيان لم تكُن حروبًا بالمعنى الدقيق، بل كان بعضها مجازِر بالمعنى الحرفيّ، والقَشة التي قصمت ظهرَ البعير كانت منهج 1864 ومرسوم العصمة البابوية لِعام 1870 المُتضمن لِطلب الكنيسة من الحُكومات الوَطنية أن تَفرِض على شعوبها (الحقائق الأخلاقية) التي تَقوم بتدريسها الكنيسة الكاثوليكية مما تسببَ بالعديد من الاضطِرابات في فرنسا.

وبالقياس على كُل ما سَبق نستطيع أن نتفَهم مدى اختلاف كُل مجتمع عن الآخر وكُل دولة عن غيرها. وكُلما تَوافق مُعتقد أو فِكر أي مصطلح “laïcité” والذي يتم ترجمته تقريبيًا وليس قَطعيًا إلى العلمانية، وتم استخدام هذا المُصطلح كأسلوب معارضة للسُلطة الأخلاقية المُمارسة من قِبل الكَهنة الكاثوليك، وأصبَحت حركة “laïcité” وسيلةً لإدانة سُلطة الإكراه الديني بشكلٍ من أشكال التأثير الإجباري الديني غير المُبَرر.

ولذلك يكون واضحًا الآن مدى حساسِية الشعب الفرنسي للدّين أكثرَ من غيرهِ وبالطبع كان لحركة “laïcité” التأثير على شَحذ أُسلوب فرنسا في التعامل مع الدّين ليسَ فقط الكاثوليكي بل ومع مُرور الأيام، باقي الأديان الموجودة والمُمارسة على الأراضي الفرنسية، فقد أصبحت هذه الحركة منهاجًا ثابتًا لهُ قواعدهُ وأصولهُ في التعامُل مع حرية المعتقد والذي يَضمن ويَكفل هذه الحُرية مما يتَناسب مع القِيم التي طَورها الشعب الفرنسي بما يتوافق مع كينونيته الخاصة المُميزة له، ما يرسم بالتالي السياسَة الداخلية للدولة بالتعامل مع الأديان، بكُل بساطة يَرى الشعب الفرنسي أنّ بعض نواحي الإسلام تتنافى مع مبادئ الـ “laïcité” بينما في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال يُعتَبر الإسلام بمُجمَله متوافق تمامًا مع مبادئ الحرية الدينية الخاصة بها!
 وذلك لأنها تتبنى مجموعة قيمٍ أخلاقية مُعينة تختلف بطريقة تكوينها وتعدُد أطوارها عن الفرنسية.

شخص مُعيّن مع مَنظومة أخلاق دولة مُعينّة كُلما زاد فَهمُه لكيفية تركيبة ونِطاق تفكير كل مجتمع، زادت فُرص اندماجه الناجح ضمن هذا المُجتمع أو ذاك وخصوصا لو كان هناك فهم تحليلي وعقلاني لذلك بغض النظر عن نظريات المُؤامرة العجيبة التي يستخدمها البعض فقط لإرضاء نفسه ولِيَكون على سلام داخلي مُزيَف يُوفِر على نَفسهِ عناءَ التفكير والتّمعُن فيما يجري من حولهِ ويستخدم قوالب جاهزة للرد والهجوم على أي شيء قد يُعارِض ما أقنعَ بهِ نفسه وذلك بأسلوب مُتعنِت وأرعَن.

 ومع الأسف قد يتطور ذلك ليصِل إلى مراحِل مُتقدمة قد تتسبب وربما تسببت فعليًا بحدوث بعض الأحداث الإرهابية الشنيعة تحديداً في فرنسا والتي قام بها مُتطرفون مُتشددون راح ضحيتها أبرياء دفاعًا عن مُعتقداتِهم وأسلوبَهم في الحياة

وطبعًا غير فرنسا وكما في كُل دولة هناك تَيارات وأحداث تاريخية أسهمَت في قَولبة المُجتمعات على اختلافها وأسهَمت في التركيبة النوعيّة والمُمَيزة لكُل شعب أو غيرِه، وفي مُنتصف هذه الدّوامات الفِكرية والأخلاقية والاجتماعية حَجَر الرَحى الذي يَدور في مُنتصف كل ما سَبق هو قُدرتنا على التأقلم مع أي بيئة او ثقافة وُجُدنا بها واستخدام مهارات الاندماج كوَسيلة فعَالة لتَحقيق السلام والتَفاهم بين مُختلف أعراق هذا الكَوكب وعلى اختلاف لُغاته ولَهجاته وأساليب حياته.

وطبعًا في كُل المقالات التي سَبقت حاولنا قدرَ المُستطاع اختصار ما يُمكنُني اختصارُه، فجميع المَواضيع التي طرحَناها تحتاج دراسات مُعمَقة وبحوث قد تأخذ مدة طويلة من الزمن ولذلك أتمنى أن نكون قد غطينا كُل الأمور الأساسية.

الحركة المدنية السوريّة | اللجنة الثقافيّة
آرام قبّاني (ناشط حقوقي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى