مقالات الأعضاء

العلمانية (16): علاقة الدولة بالدين في التجربة السياسية العربية الإسلامية عبر التاريخ: (2)

كان معروفاً للمسلمين يومئذٍ ( بعد وفاة الرسول محمد) أنّهم يُقدمون على إقامة حكومةٍ مدنيةٍ لذلك استحلّوا الخروج عليها والخلاف بشأنها وهم يعلمون أنّهم يختلفون في أمرٍ من أمور الدنيا لا من أمور الدين، وأنّهم يتنازعون في شأنٍ سياسيٍ لا يمس دينهم ولا يزعزع إيمانهم، وأنّ الخروج على الإمارة لم يكن خروجاً عن الدين وارتداداً عنه. حتى أنّ أبا بكر نفسه لم يكن يرى أنّ إمارة المسلمين كانت مقاماً دينياً، إذ قال: ” يأيّها الناس إنّما أنا مثلكم، وإنّي لا أدري لعلّكم ستكلفوني ما كان رسول الله يُطيق، إنّ الله اصطفى محمداً على العالمين وعصمه من الآفات، وإنّما أنا متّبعٌ ولست مبتدعاً “. أمّا سبب قبول أبو بكر لقب خليفة رسول الله فلأنّ هذا اللقب يوحي بالقوة والروعة والجاذبية ويناسب شخصاً يريد أن ينهض بدولةٍ حديثةٍ تعاني من الفتن، شعبها قومٌ صعب المراس لم يتخلّص بعد من رواسب الجاهلية وبقايا العصبية والبداوة، لكّنه شعبٌ حديث العهد بالوحدة الدينية تحت راية رسول الله والخضوع والانقياد التام لكلمته، فهذا اللقب يستطيع أن يكبح من جماحهم ويليّن من استعصى منهم ويسّهل قيادتهم.

        لكن رغم الصبغة الدينية التي أضفاها لقب خليفة رسول الله على أبي بكر والتي دفعت الكثير من الناس للانقياد ورائه، ظهرت مجموعاتٌ من العرب عارضت سلطة أبي بكر ورفضت أن تنضم إلى الوحدة التي شكّلها. هؤلاء اعتبرهم البعض ممّن كانوا يرون أنّ زعامة أبو بكر زعامةً دينيةً، مرتدّين كفروا بالله ورسوله، وعلى ذلك أطلقوا على حروب أبي بكر معهم تسمية حروب الردّة. ولكنّهم في الحقيقة لم يكونوا جميعهم مرتدّين، بل كان منهم خصوماً سياسيين بقيوا على إسلامهم لكنهم رفضوا بيعة أبي بكر، ولذلك لم تكن محاربتهم باسم الدين ولكّنها حربٌ قامت على أسبابٍ سياسيةٍ للدفاع عن وحدة العرب ولحماية الدولة التي يقومون بتأسيسها، ويدل على ذلك أنّه بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر لم يُعامل بعض من رفض بيعته كعلي بن أبي طالب وسعد بن عبادة معاملة المرتدّين ولا قيل ذلك عنهم.

ومن كان منهم قد منع الزكاة لم يمنعها كفراً بالدين ولكن لأنّه رفض الإذعان لحكومة أبي بكر، فكان بديهياً أن يمنع عنه الزكاة لأنّه لا يعترف به ولا يريد أن يعترف بسلطانه، وهذا يؤكّده الحوار الذي دار بين خالدٍ بن الوليد ومالك بن نويرة أحد اللذين اُعتبروا مرتدين وهو من أمر خالد بضرب عنقه ثم أُخذت رأسه فجعلت حجراً توضع عليه القدر عندما توقد عليها النار للطبخ، حيث أعلن مالك صراحةً إلى خالد أنّه لا يزال على الإسلام لكّنه لن يؤدي الزكاة لأبي بكر. وليس مالك هو وحده من أكدّ بقاءه على دين الإسلام، بل شهد بإسلامه عمر بن الخطّاب إذ قال لأبي بكر: ” إنّ خالداً قتل مسلماً فاقتله “، وحتى أبو بكر نفسه شهد لمالك بالإسلام عندما أجاب عمر: ” ما كنت أقتله، فإنّه تأوّل فأخطأ “. كما أنّ عمر بن الخطّاب أنكر على أبي بكر قتاله الجماعات التي خرجت على سلطانه في ذلك الوقت حيث قال له: ” كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فمن قالها عصم منّي ماله ونفسه إلّا بحقه وحسابه على الله “.

        عقب انتهاء حكم أبي بكر الصدّيق تولّى عمر بن الخطّاب منصب الخليفة، ورغم أنّه لم تصادف مرحلة حكمه الكثير من المشكلات إلّا أنّها لم تشهد سوى مبادراتٍ محدودةٍ في أواخر حكمه لوضع أسسٍ فكريةٍ وعمليةٍ للدولة؛ حيث شرع في بناء بعض دواليب الحكم مستعيناً بالتجربة الفارسية فأسس الدواوين وهيكلَ الجيش. كما لم تُخلّف هذه المرحلة تجربةً ناجحةً يمكن التعويل عليها في نقل الحكم؛ فعندما طُعِنَ عمر رشّح ستة أشخاص لمنصب الأمير وهم نفسهم يشكّلون هيئة انتخابية تختار أميراً، ممّا شكّل معضلةً بسبب الدور المزدوج لأعضاء هذه الهيئة، فقام عبد الرحمن بن عوف وهو أحد أعضاء الهيئة، بسحب ترشيحه حلّاً للمشكلة فأصبح هو وحده الهيئة الانتخابية، ثم انحصرت المنافسة في النهاية بين مرشحين هما عثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب، واختار عبد الرحمن بن عوف عثمان بعد أن كشفت له المشاورات ترجيح الرأي العام لعثمان عُقب رفض علي الالتزام بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر في الحكم.

وقع على عثمان بن عفّان عبء التفكير بالتحوّل العميق الذي طرأ على المسلمين كجماعةٍ دينيةٍ وعلى سلوكهم وحاجاتهم، إذ بدأ يظهر جليّاً التوتر الهائل الذي يعيشه هذا الكائن المدني الجديد ذو الرأسين المتصارعين (الدين والدولة)، لذلك أقدم على جمع القرآن وتوحيده وإحراق النُسخ الأخرى غير المعتمدة، وحاول الوصول إلى رؤية للعلاقة بين الدين والدولة، والشريعة والسلطان؛ إذ رأى أنّ القوة (السلطان) شرط أساسي لقيام الدين، فالدين أصبح قانوناً يُقدّم للدولة وأصبحت الدولة قوةً صماء تقوم بتطبيق وتنفيذ هذا القانون، وهذا يبرز من مقولته: ” إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن “.

لحظة مقتل الخليفة الثالث عثمان، تفاجأ المسلمون بأنّ الخلاف السياسي الذي اعتقدوا أنّه قد خمد عشية تولّي أبي بكر الإمارة، لم يخمد بعد، وإن كان قد خَفَتَ لمرحلةٍ من الزمن. فخلال مدّة خمس سنوات قضاها علي بن أبي طالب في الحكم نشأت الكثير من أعمال العنف والثأر ونشبت الكثير من المعارك بين المسلمين أنفسهم كالجمل وصفّين والنهروان والتي انتهت بتكريس سيطرة معاوية بن أبي سفيان على الشام ومصر. وبعد فترةٍ وجيزةٍ من مقتل علي بن أبي طالب وتولّي ابنه الحسن الإمارة، استطاع معاوية أن يستولي على السُلطة ويجعل مركزها دمشق، ويُصّفي دموياً أنصار علي بن أبي طالب. فلم يكن يخفى على أحدٍ أنّ معاوية قام بانقلابٍ دمويٍ حقيقيٍ من أجل الاستيلاء على السُلطة، ولكّن الأمويين راحوا يخلعون رداء الشرعية الدينية على ما فعله غداة انتصاره وذلك بمساعدة رجال الدين الذين بدأوا بتشكيل علم لاهوت رسمي.

من هنا ظهر التوجه الأتوقراطي لحكم معاوية وذلك من خلال ما وصفه به أنصاره من الكتبة ومن خلال مقولاته ومنها ” أمّا بعد، فإنّي ما ولّيتها بمحبةٍ علمتها منكم ولا مسرّةٍ بولايتي، ولكنّي جالدتكم بسيفي هذا مجالدةً “، كما استمر معاوية بخلط المقولات الزمنية بالدينية وكان تارةً يقرّ بأنّ حكمه لا يتأسس على الدين وإنّما على القوة، وتارةً أخرى كان يتكئ على الخطاب الديني لإعطاء الشرعية لخططه الدنيوية، ومثال ذلك ما قاله أمام معارضيه أثناء تولية ابنه يزيد وليّاً للعهد ” وإنّ أمر يزيدٍ قد كان قضاءً من الله، وليس للعباد خيرةٌ من أمرهم “، وعلى هذا النهج سار الخلفاء الأمويون من بعده، فاعتمدوا القول بالجبر كأساس والعطاء في بعض الأحيان كممارسةٍ سياسيةٍ. فخلال أقل من أربعة عقود على وفاة الرسول عادت دولة الاجتماع السياسي الطبيعي وتحوّل الدين من غايةٍ إلى وسيلةٍ بكل ما تعنيه الكلمة وأصبح واقعاً توظفه السلطة لحسابها، وهذا كلّه يؤكّد أنّه لا أساس للادعاء بأنّ الدين الإسلامي يتضمّن مشروعاً سياسياً قادراً على الاستمرار والثبات بصرف النظر عن طبيعة الأشخاص وتغيّر الزمان والظروف.

وبعد فترةٍ من الزمن انهار حكم الأمويين وانتهى، وآل الحكم لأسرةٍ انتظرت طويلاً وشكّلت معارضةً دائمة للأمويين بدعوى أحقيتهم في الحكم لانحدارهم من الدم النبوي وهم العباسيون، إذ ظهر في عصر العباسيين خطابٌ جديدٌ تماماً يجمع بين القبيلة والعقيدة أي بين القرابة من النبي وبين الإرادة الإلهية. ومثل الأمويين وصل العباسيون إلى الحكم بالقوة، وقاموا بتوريث الخلافة وتغييب أيّ دور للأمّة في المشاركة السياسية، كما كانوا يولّون العهد على خلاف الأمويين لأكثر من واحد لأبنائهم حيث يُعيّن اثنان أو أكثر، يلي فيه الواحد الآخر، ممّا أدى إلى اقتتال ولاة العهد بين بعضهم من أجل السلطة كما حدث مع ابني هارون الرشيد الأمين والمأمون اللذين اقتتلا بعد أن أراد الأمين عزل المأمون من ولاية العهد لتقديم ابنه، فانتهى الخلاف بمقتل الأمين. كما استند الحكم العباسي منذ البداية على مبرر الحكم الإلهي المؤسس على توارث الحكم، وهذا ما عبّر عنه أول الخلفاء العباسيين أبو العباس السفّاح بقوله: ” إنّ الخلافة عادت لمن هي حقٌّ له “، وسعى العباسيون في هذا الإطار إلى وضع أحاديث على لسان الرسول لإثبات حقهم في الخلافة دون آل البيت الآخرين، بل وصل بهم الأمر إلى وصف الحاكم بأنّه ظلّ الله في الأرض وهذا ما قاله أبو جعفر المنصور وهو المؤسس الحقيقي لدولة العباسيين:  ” أيّها الناس إنّما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ما له فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه “.

فكانت دولتهم قائمة على الإفراط في سفك الدماء والمبالغة في إفزاع الخصوم واستئصال شأفة الأمويين في عمليات إبادةٍ شاملةٍ لم ينجُ منها سوى من هرب إلى الأندلس. وتكرّر هذا النموذج في حُكم الأمويون في الأندلس، والفاطميون والأيوبيون والمماليك في مصر، والسلاجقة في بلاد فارس وجزء من بلاد الشام، والمغول في الهند، انتهاءً بالأتراك العثمانيين في إسطنبول، حيث زعم السلاطين في كل مناسبة أنّهم يخدمون الدين، بينما في الواقع كان الدين هو الذي يخدم السلطنة؛ لأنّ الدعوة الدينية كانت الشّماعة التي يعلقون عليها رغبتهم في توسيع إمبراطوريتهم في الشرق من خلال ادعائهم الحرص على الإسلام وفي الغرب بدعوى الفتح الإسلامي، فأخضعوا الشعوب الإسلامية بمبرر الخلافة وزجّوا اليافعين في الحروب تحت مسوّغ الجهاد في سبيل الله. والروايات التاريخية مليئة بالأحداث التي تُظهر كبت الحكم العثماني للحريات المدنية والسياسية.

وسنكمل في مقالٍ لاحق… يتبع

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى