مقالات الأعضاء

العلمانية (17): علاقة الدولة بالدين في التجربة السياسية العربية الإسلامية عبر التاريخ (3)

أمّا فيما يتعلق بالفكر اللاهوتي الذي ساد العالم الإسلامي، ظهرت في الفترة التي أعقبت نهاية الخلافة الراشدة كما يُطلق عليها المؤرخون المسلمون، كتابات سياسية واكبت التحوّل الصريح نحو المُلك الجبري، هدف أصحابها من خلالها إلى رفد الواقع السياسي بمجموعة من الكتابات لتسهيل استيعاب هذه المرحلة، أُطلق عليها فيما بعد الآداب السلطانية نظراً لارتباطها بالسلاطين وتقديم النُصح والإرشاد لهم المستند إلى تجاربٍ سياسيةٍ قديمةٍ أو معاصرةٍ لتجربتهم. وكان أغلب من نظّروا في هذه الفترة هم من الكتبة الذين خدموا البيروقراطية المركزية والمحلية بشتى الطرق وأولوا عنايةً مركزةً لأمور إدارة دفّة الحكم وليس للفلسفة السياسية، فتراهم في موسوعاتهم يخاطبون الحُكّام والوزراء. واستندت أدبياتهم على منظومة أحاديث وضِعت على لسان الرسول بعد وفاته بقرون كانت تتناول ساحة الحكم ودواليبه وتفرض رؤيا دينية على الشأن السياسي.

هذه الكتابات أسّست لما يوصف بالثيوقراطية أو الحكم الإلهي في العالم الإسلامي، فنراها تمنع الإنسان حتى من حقه في الحُلم، مجرد الحُلم بنظامٍ بديلٍ للذي يحكمه السلطان ومنها قول أحمد بن حنبل: ” من غلبهم بالسيف حتى صار خليفةً، وسُميّ أمير المؤمنين، لا يحلّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، برّاً كان أو فاجراً فهو أمير المؤمنين”، وقول أبو الحسن الأشعري: ” ومن ديننا أن نصلي خلف كل برٍّ وفاجرٍ ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة “. ولم يهتم الفقه السياسي للكتابات السلطانية ببناء كيانات سياسية مستقلة عن شخصية الحاكم، بل لم ينفك عن تقنين واقع الحكم القهري وإعطاءه الشرعية، وفي هذا الصدد يقول الغزالي: ” اعلم وتيقّن أنّ الله اختار من بني آدم طائفتين: وهم الأنبياء؛ ليبينوا للعباد على عبادته الدليل… واختار الملوك؛ لحفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض… كما يُسمع في الأخبار: السلطان ظلّ الله في أرضه فينبغي أن يعلم أنّ من أعطاه الله درجة الملوك وجعله ظلّه في الأرض، فإنّه يجب على الخلق محبته ويلزمهم متابعته وطاعته ولا يجوز معصيته ومنازعته… فينبغي لكل من أتاه الله البدن أن يحب الملوك والسلاطين وأن يطيعهم فيما يأمرون، ويعلم أنّ الله تعالى يعطي السلطنة والمملكة وأنّه يؤتي مُلكه من يشاء “. وكذلك الفارابي يرى أن ّ رئيس المدينة الفاضلة هو الذي ينفرد وحده بتدبير أمورها؛ فليس هناك أيّ إنسانٍ أو هيئةٍ أخرى يمكنها أن تستقطع جزءأ من سلطانه، فهو الدستور له أن يدبر أمور الدولة كيفما شاء، والتشريعات الصادرة منه مُستمدة من الوحي الإلهي المباشر الذي يفيض من الله إلى العقل.

فالأدب السلطاني لا يهمه أن يبحث في أسس السلطة السياسية أو تاريخها أو مناقشة شرعيتها، بقدر ما يبحث في الوسائل التي تساعد على تقويتها والحفاظ على هيبتها، ولا يهمه البحث في أخلاقيات السلطة وإنّما يشير إلى نفع أو ضرر هذا الفعل أو ذاك بالنسبة للسلطان. فإنّ اندماج الديني في السياسي والدنيوي في المقدس كما نظّرت له الأدبيات السلطانية وكرّسته التجربة السياسية على مدى قرون سيترك أثراً على مضمون العقيدة نفسها؛ فأصبح الإيمان والفسق والكفر والمكر تتحدد أحكامهم في المجتمع السياسي قبل الآخرة وأصبحوا يتخذون بُعداً سياسياً، ممّا أثّر مباشرةً على مسألة الحقوق والواجبات المجتمعية والسياسية. فالعقل السياسي العربي أصبح مسكوناً بفكرة المماثلة بين الإله والأمير (سواء كان الأمير فرعوناً أو خليفةً أو ملكاً أو سلطاناً أو رئيساً أو زعيماً)، ممّا أسس على مستوى اللاشعور السياسي للعقل العربي لنموذج الحكم الأمثل وهو نموذج الحكم المستبد العادل.

لكن في ذات الحقبة الزمنية وبشكلٍ أدق بين القرنين الثاني والثالث للهجرة ظهرت حركةٌ لمجموعةٍ من المثقفين المسلمين لقّبوا بالمعتزلة، أظهرت أنّ الإسلام بحد ذاته ليس مغلقاً بوجه العلمنة. وكلمة المعتزلة تعني أولئك الذين اعتزلوا الناس بمحض إرادتهم للتأمّل والتفكير، ولكن حرّف المسلمون الأصوليون هذه التسمية عن معناها الأصلي فقالوا بأنّها تشير إلى المعزولين أو المفترقين عن الأمة، وذلك من أجل تسفيه المعتزلة والحطّ من قدرهم. تعرّض هؤلاء المثقفين للإضهاد طوال التاريخ الإسلامي بسبب ما عالجوه من المسائل الأساسية للساحة الفكرية الإسلامية، فقد كان هؤلاء ذوي مرجعيةٍ ثقافيةٍ مزدوجةٍ متمثلةٍ بظاهرة الوحي والفكر الإغريقي، فبالإضافة إلى دراستهم للوحي الإسلامي درسوا أيضاً الفكر الذي وصلهم من اليونان القديمة بأسلوبٍ مختلفٍ عن أسلوب باقي الفلاسفة. ووصل الأمر بهؤلاء المفكرين إلى حد طرح فكرة ” القرآن المخلوق ” التي فتحت حقلاً معرفياً جديداً قادراً على توليد عقليةٍ نقديةٍ مشابهةٍ لتلك العقلية التي شهدها الغرب الأوربي، لولا معارضة الإسلاميين الأصوليين لهم والاضطهاد الذي تعرض له هؤلاء المفكرين وخصوصاً على يد الخليفة القادر الذي أصدر قراراً يمنع كل شخصٍ من الإشارة إلى موقف المعتزلة بخصوص خلق القرآن، وإباحة دم كل من يفعل ذلك، فانتصر بذلك الإسلام الأصولي وترسخ لمدة تسعة قرونٍ متواصلةٍ فأعطى النتائج التي نراها اليوم من تشويهاتٍ وانقطاعاتٍ أصابت الفكر الإسلامي، فالإسلام الأصولي هو إسلامٌ مبتورٌ وفقيرٌ ومُنهكٌ بسبب تأثير القرارات السياسية التي اتخذتها دولة الخلافة في الماضي، فلو أُتيح لموقف المعتزلة أن يستمر بصفته أحد وجهات النظر في الإسلام لما أصبح الإسلام مجرد دينٍ جامدٍ أو دين كتاب.

وفي أواخر حُكم الإمبراطورية العثمانية برز الكثير من الكّتاب الذين أسّسوا لما يسمى بالفكر النهضوي الذين كان لهم رؤيا جديدة للمسألة الدينية وعلاقة الدين بالدولة. منهم عبد الرحمن الكواكبي الذي كان يهاجم الاستبداد ويرفض أيّ أساس ديني للحُكم أو أيّ دور لرجال الدين في الشأن السياسي الذي قال: ” لقد تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أنّ الاستبداد السياسي متولّد من الاستبداد الديني، والبعض يقول: إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنّهما حاكمان؛ أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب…”، ولم يكتفي الكواكبي بنقد الاستبداد وإنّما سحب نقده إلى رجال الدين متهماً إيّاهم بأنّهم غيروا مفهوم اللغة وبدّلوا الدين وطمسوا العقول، حتى جعلوا الناس ينسون لذّة الاستقلال وعزّة الحرية، بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمّة نفسها بنفسها من دون سلطانٍ قاهرٍ.

وهناك جمال الدين الأفغاني ورفيقه محمد عبده اللذين يتفقان على ألّا يتأسّس الحكم إلّا على أحكام الشريعة أيّ أن لا يأتي أيّ قانون إلّا متوافقاً معها، إلّا أنّ الأفغاني يرفض فكرة أنّ البلاد في حاجة لمن يحكمها بالجيوش القوية والقلاع المحصّنة، فذلك على الرغم من أهميته لا يصون البلاد ولا يحرصها ما لم يتناول أعمالها رجالٌ ذوو خبرة وألو رأيٍ وحكمةٍ، ويرى الأفغاني أنّه إذا كان هناك حاكم فيبقى التاج على رأسه ما بقي محافظاً أميناً على صون الدستور، أمّا إذا حنث بقسمه وخان دستور الأمّة فإمّا أن يبقى رأسه بلا تاج أو تاجه بلا رأس، كما يشترط الأفغاني إشراك الناس في شؤون الحكم ويرى أنّه لا عدل إلّا بكون قوة الملك وسلطته مقيدة، ويخالفه محمد عبده الذي كان يرى بضرورة وجود أمير للناس لكنّه يوجب الخروج عليه في حال انحرفه عن المنهج فيقول: ” الأمّة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم ٌمدنيٌ من جميع الوجوه “.

وسنكمل في مقالٍ لاحق… يتبع

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى