مقالات الأعضاء

العلمانية (15): علاقة الدولة بالدين في التجربة السياسية العربية الإسلامية عبر التاريخ: (1)

إنّ ما يميّز التجربة الإسلامية السياسية والدولتيّة أنّها تشكلت في ظلّ غياب أيّ وجودٍ لتجربةٍ سابقةٍ لها عند العرب خارج ما كرّسته الممارسة القبلية، كما أنّ المسلمين الأوائل لم يكونوا في مواجهة سلطة الإمبراطورية كما في المسيحية وإنّما كانت مواجهتهم منحصرة مع المجتمع المنقسم إلى قبائل، حتى أنّ هذه المواجهة امتدت داخل الأسرة الواحدة. وبهذا لم يواجه النبي محمد لحظة تلقّيه الوحي إشكاليّة الدولة أو السلطة، فلم يكن يهمه الوصول إلى السلطة أو إزاحة نظام حكم من أجل تكريس نظامٍ آخر، وإنّما كان يهدف إلى تحقيق الانتشار الواسع للدين.

فالمنطقة العربية تاريخياً كانت تحتوي أصنافاً مختلفةً من العرب موزّعين على قبائلٍ متباينة اللهجات ومتنائية الجهات ومختلفةٍ كوحداتٍ سياسيةٍ بسيطةٍ، فمنها ما كان خاضعاً لسلطة الإمبراطورية الرومانية ومنها ما كان بعيداً عن هذه السلطة وكان قائماً بذاته مستقلاً، وهذا ما أدّى بالضرورة إلى وجود تباينٍ كبيرٍ بين هذه القبائل في مناهج الحكم وأساليب الإدارة والآداب والعادات وكذلك في مرافق الحياة الاقتصادية والمادية وغيرها. وعند ظهور الإسلام اجتمعت هذه القبائل المتناثرة في زمن النبي تحت لواء الإسلام فصاروا جماعةً دينيةً واحدةً تحت زعامة النبي، وزعامة النبي هنا كما ذكرنا سابقاً هي زعامةٌ دينيةٌ روحيةٌ لا سياسية مدنية، فلم يتعرض الرسول لشيءٍ من سياسة تلك القبائل المتشتتة ولا الطرق المتبعة لديهم في الحكم ولا لأنظمتهم الإدارية والقضائية ولا للصلات الاجتماعية والاقتصادية فيما بينهم، فلم يُسمع أنّه عزل والياً ولا نظّم فيهم عسساً ولا وضع قواعداً لتجارتهم ولا لزراعتهم ولا لصناعتهم، بل ترك لهم هذه الشؤون الدنيوية وقال لهم أنتم أعلم بها، فبقيت كل قبيلةٍ وحدةً مدنيةً سياسيةً مستقلةً عن بقية القبائل ولا يربطها بهم سوى دين الإسلام وقواعده وآدابه التي جاء بها والتي كانت تمس بعض جوانب الحياة فيها، فكان بعضها يتعلّق بالعقوبات وأخرى تتعلّق بتنظيم الحروب والجهاد وأخرى تنظّم بعض المسائل المالية كالبيع والمداينة والرهن وبعضها تتعلق بآداب الجلوس والمشي والحديث وغيرها…

ولكن كل هذه الأنظمة والقواعد والآداب لا تُشكّل في الحقيقة إلّا جزءاً يسيراً مما يلزم لقيام دولةٍ بالمفهوم الحديث، وهذه القواعد لم تكن إلّا لتحقيق مصلحة البشر الدينية فلم يكن الشرع السماوي ينظر إلى مدى تحقيقها لمصالح البشر الدنيوية ولم يكن يُعنى بهذا الأمر. فالعرب كانوا في زمن النبي وحدةً دينيةً عامّةً توجد تحتها وحداتٍ سياسيةٍ صغيرةٍ تتباين فيما بينها في كافة الأمور إلّا تلك التي نظّمها الإسلام لغايات جمعهم على دينٍ واحدٍ وتخفيف حدّة الخلاف والصراع فيما بينهم، وهذا المعنى ورد حين قال الله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران/103]. ومن الطبيعي أنّ العرب بقوا في ظّل الإسلام قبائلاً متباينةً وإن كان الإسلام قد خفف من حدّة هذا التباين؛ لأنّ الأمر الذي يكون طبيعياً لا يمكن التخلص منه بأيّ شكل من الأشكال وإنّما يمكن فقط تخفيف حدّته وتقليل آثاره. وما يؤكد بقاء الاختلاف فيما بينهم هو ما حدث بعد وفاة الرسول حيث عادت كل قبيلةٍ منهم تشعر بشخصيتها المتميزة ووجودها المستقل وبدأ بعضهم بالارتداد، وهذا الذي شكّل في تلك الحقبة خطراً على الوحدة العربية التي نمت في حياة الرسول.

هذه الزعامة كانت لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي وهي ليست لشخصه ولا لنسبه ولكن أُنيطت به لأنّه رسول الله فمتى ما توفي الرسول ليس لأحدٍ أن يتولّى من بعده هذه الزعامة وهذا المقام الديني، فالرسالة لا تُورّث عن الرسول ولا تُؤخذ منه عطاءً ولا توكيلاً. فعندما توفي الرسول توفي دون أن يسمّي أحداً يخلفه من بعده أو يقوم مقامه في أمته، بل لم يُشير طول حياته إلى شيءٍ يُسمى دولةً إسلاميةً أو دولةً عربيةً، فلو كان عمله أن يُنشأ دولةً فلم يكن ليترك أمر تلك الدولة مبهماً على المسلمين ليرجعوا من بعده حيارى يضرب بعضهم رقاب بعض، فهو لم يتوفَ إلّا بعد أن أدّى رسالته كاملةً وبيّن لأمّته قواعد الدين كلّه لا لَبسَ فيها ولا إبهام.

لم يكن المسلمون يعتقدون أنّهم سوف يفقدون نبيّهم أو ينفصلون عنه قبل أن يرون الخلاص النهائي والقيامة على يديه وتحت قيادته، وهذا ما يفسّر رفض عمر بن الخطّاب قبول فكرة موت الرسول للوهلة الأولى، وهذا ما دعا أبا بكر إلى أن يخطب فيهم قائلاً: ” من كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات “.

الباحثون في التاريخ العربي الإسلامي انقسموا عند بحثهم في هذه المرحلة التاريخية إلى فريقين؛ منهم من يرى أنّ الخلاف الذي حصل بين المهاجرين والأنصار بعد وفاة الرسول كان خلافاً حول من يخلف الرسول كزعيمٍ دينيٍ، ومنهم من يرى أنّ هذا الخلاف كان خلافاً حول مملكةٍ تُقام ودولةٍ تُشيّد.

        الفريق الأوّل رأى أنّه مع وفاة الرسول المفاجأة التي لم يضعها الصحابة في الحسبان وحتى قبل دفن جثمانه، لاحت في الأفق بوادر مرحلةٍ جديدةٍ وجاءت لحظة الخلاف والصراع بين المسلمين حول من يشغل الفراغ الذي تركه الرسول، حيث حصل خلافٌ حادٌ بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة حول أحقيّة كل مجموعة في اختيار الأمير وفق ما أطلقوا عليه من تسميةٍ في ذلك الوقت، فأدرك المسلمون في تلك اللحظة أنّهم أمام أمرٍ لم يضعوه في الحُسبان وأنّهم لم يألفوا الكيانات الكبيرة التي عاشوا في ظلّها إبان حياة الرسول، فالرسول لم يعلّمهم كيف يدبرون أمورهم في غيابه ولم يعتادوا أن يتصرفوا من غير إذنه، ولم يستخلف أحدهم من بعده إلّا في إمامة الصلاة حال مرضه، بل كان دوماً يُقر بأنّهم أعلم بشؤون دنياهم. هذا كلّه يؤكّده اعتذار عمر بن الخطّاب من الناس على مبادرته في مبايعة أبي بكر يوم اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة قبل أن يتفاهم مع الآخرين حيث قال لهم في اليوم التالي لبيعة السقيفة: ” أيّها الناس إني قد قلت لكم بالأمس مقالةً فما كانت إلّا عن رأي وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهداً عهده إليّ رسول الله، ولكني قد كنت أرى أنّ رسول الله سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا، وأنّ الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإنّ الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوا “. ولهذا لم يفكر أبو بكر ولا غيره بأن يُطلق على نفسه لقب سلطان أو ملك ولكنّه استخدم ببساطة لقب خليفة رسول الله، وهذا لم يكن اعتباطاً ولكن لأنّ المسلمين في تلك الفترة كانوا يعون طبيعة الفراغ الذي نشأ بوفاة الرسول الذي كان يقود حركة التقدم الإسلامي وعملية التبشير والهداية، حتى أنّ عمر بن الخطّاب لقّب نفسه أمير المؤمنين ولم يُطلق على نفسه لقب أمير المسلمين ليؤكد المعنى الدقيق للخلافة وهو قيادة جماعة الإيمان المجاهدة المتمحورة حول رسالة الإسلام وليس قيادة جماعة المسلمين كجماعةٍ تاريخيةٍ ماديةٍ ذات مصالحٍ دنيويةٍ.

        أمّا الفريق الثاني يرى أنّ الدعوة الإسلامية رفعت من شأن العرب حين تحوّلوا إلى أمّةٍ واحدةٍ بعد أن كانوا مشتتين، إذ هيّأت لهم أسباب القوة والغلبة لمنافسة باقي الشعوب ليكونوا سادةً ومستعمرين وليأخذوا حظّهم من الوجود كاملاً غير منقوصٍ، فلا بدّ إذاً أن تقوم دولة العرب كما قامت من قبلها دولٌ وقامت من بعدها دولٌ، فشعب ناهضٌ مثلهم لا يمكن إذا انحلت عنهم زعامة النبوة أن يعود راضياً كما كان أمماً جاهلةً وشعوباً همجيةً وقبائلاً متعاديةً ووحداتٍ مستضعفةً. لذلك بدأوا يتشاورون في أمر تلك الدولة السياسية التي يمكن بناءها على أساس وحدتهم الدينية التي خلّفها فيهم النبي، وجرى على لسانهم يومئذٍ ذكر الإمارة والأمراء، والوزارة والوزراء، وتذكروا القوة والسيف، والعزّ والثروة، والعدد والمنعة، والبأس والنجدة، فتنافس المهاجرون والأنصار وكبار الصحابة حتى تمّت البيعة لأبي بكر فكان أول ملكٍ في الإسلام، وقامت الدولة العربية كما تقوم أيّة دولةٍ أخرى على أساس القوة والسيف. هذه الدولة العربية وإن كانت قد قامت على أساس دعوةٍ دينيةٍ وأخذت شعاراً لها حماية الدعوة وكان لها فضلٌ في تطور الإسلام وانتشاره، لكنّها لا تخرج عن كونها دولةً أيّدت سلطان العرب وحققت مصالحهم ومكّنتهم من استعمار أقطار الأرض واستغلال خيراتها شأن الأمم القوية التي تمكنت قبلهم من الفتح والاستعمار.

        ويستند أصحاب هذا الرأي إلى الجدال الذي دار بين الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة حين قال الأنصار للمهاجرين: ” منّا أمير ومنكم أمير “، وحين أجابهم أبو بكر: ” منّا الأمراء ومنكم الوزراء “، وحين نادى أبو سفيان: ” والله إنّي لأرى عجاجةً لا يُطفئها إلّا الدم، يا آل عبد المناف فيمَ أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان! أين الأذلّان! علي والعباس؟ ” ثم قال: ” يا أبا حسن ابسط يدك حتى أبايعك فأبى علي “. وكذلك حين رفض سعد بن عبادة البيعة لأبي بكر وقال: ” والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل وأيم الحق لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أُعرض على ربّي وأعلم ما حسابي”، فكان سعدٌ لا يصلي بصلاتهم ولا يُجمع معهم، ويحّج ولا يفيض معهم، وبقي كذلك حتى توفّي أبو بكر. وفي هذا السياق جاء حديث عمر بن الخطّاب عندما احتجّ للمهاجرين على الأنصار بقوله: ” من ذا يُنازعنا سلطة محمدٍ وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلّا مدللٌ بباطل أو متجانفٌ لإثم ومتورطٌ في هلكة. والله لا ترضى العرب أن تأمّركم ونبيها من غيركم “، ووافقه على ذلك الأنصاري سعد بن بشير فقال: ” إنّ محمداً رسول الله رجلٌ قرشيٌ، وقومه أحّق بميراثه وتولّي سلطانه “. إذاً لم يستشهد أيٍ من المتصارعين على الإمارة بنصوصٍ دينيةٍ أو أحاديثٍ للرسول من أجل الانتصار لموقفه، بل جُلّ ما تفوه به الناطقون باسم كل فريق هو لغة السياسة والدهاء والمصالح. أمّا الأحاديث التي تُروى الآن على لسان الرسول سواء من كونه أوصى لأحد أصحابه بالحكم من بعده أو أنّه قال بأنّ الحكم والإمامة في قريش، فهي على الأرجح منحولاتٌ وضِعت بعد هذه الفترة بمدّةٍ طويلةٍ وتحديداً لحظة الفتنة الكبرى بعد وفاة عثمان بن عفّان؛ وهو الصراع الذي تقاتل فيه المسلمون بجميع الوسائل سواء الوسائل الحربية (السيوف) أم الوسائل المعنوية (الأحاديث).

وسنكمل في مقالٍ لاحق… يتبع

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى