مقالات الأعضاء

العلمانية (13): هل أسّس الإسلام فعلاً لدولة الخلافة الإسلامية؟ (1)

الرسالة تختلف عن المُلك وليس بينهما شيء من التلازم بأيّ وجهٍ من الوجوه، فالرسالة مقامٌ والمُلك مقامٌ آخر، فكم من ملكٍ ليس نبياً وكم من رسولٍ لم يكن ملكاً، بل إنّ أغلبية الرُسل إنّما كانوا رُسلاً فحسب، فلقد كان عيسى بن مريم رسول الدعوة المسيحية وزعيم المسيحيين يدعو إلى الإذعان لقيصر ويؤمن بسلطانه، وكان النبي يوسف بن يعقوب عاملاً من العمال في دولة الريان بن الوليد فرعون مصر ومن بعده كان عاملاً لقابوس بن مصعب.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الرسالة بحد ذاتها تستلزم للرسول نوعاً من الزعامة والسلطان في قومه، لكنها ليست كزعامة الملوك وسلطانهم على رعيتهم، فقد يتناول الرسول من سياسة الأمّة بعضاً ممّا يتناوله الملوك ولكن للرسول وظيفةٌ لا شريك له فيها وهي الاتصال بالأرواح ونزع الحُجب عن القلوب ليصل إلى منابع الحب والضغينة ومنابت الحسنة والسيئة، فيتصل بنفوس أتباعه اتصال رعايةٍ وتدبيرٍ، فهي زعامة الدعوى الصادقة إلى الله وإبلاغ رسالته لا زعامة مُلك ولا حكم سلاطين، فولاية الرسول على قومه ولايةٌ روحيةٌ تنشأ من إيمان قلوبهم به وبرسالته فيخضعون له خضوعاً صادقاً تاماً يتبعه بالضرورة خضوع الجسد، على عكس ولاية الحاكم التي تكون ولاية مادية تعتمد على إخضاع الجسد دون أن تتصل بالقلوب بأيّ شكل. فالإسلام أسّس لوحدةٍ دينيةٍ فكان المسلمون جماعةً واحدةً، ودعا النبي إلى هذه الوحدة وأتمّها قبل وفاته وكان على رأسها باعتباره إمامها الأوحد ومدبرها الفرد الذي لا يُخالف له قول، وفي سبيل تحقيق هذه الوحدة مكّن الله الرسول من الفتح وأيّده بملائكته حتى تمكّن من إبلاغ رسالته وتأدية أمانته، فكان له من السلطان على أمّته ما لم يكن لسلطانٍ قبله ولا بعده، وهذا المقصود بقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) [الأحزاب/6]، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب/36].

لكن هل يعني هذا أنّ النبي كان حاكماً؟ وهل يعني هذا أنّ إطاعة الله ورسوله تكون بالإكراه والقسر؟ إنّ القرآن ينفي بأنّ للنبي محمدٍ شأناً في المُلك السياسي، بل يؤكد القرآن على أنّ عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان، وإليك هنا بعض الآيات القرآنية التي تؤكّد ذلك (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء/80]، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس/99]، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ) [يونس/108]، (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) [الشورى/48]، (نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) [ق/45]، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ) [الغاشية/21-24]، (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود/12]، (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف/110]، (إِنْ يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [ص/70]، (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) [الرعد/40]. فالقرآن يمنع منعاً صريحاً أن يكون النبي محمداً حفيظاً على الناس ولا وكيلاً ولا جباراً ولا مسيطراً، ولا أن يكون له حق إكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين، ومن لم يكن حفيظاً ولا مسيطراً فليس بملك لأنّ من لوازم المُلك السيطرة العامّة والجبروت سلطاناً غير محدود.

وهذا ما تؤكده السُنّة النبوية كذلك حيث روى صاحب السيرة النبوية أنّ رجلاً جاء إلى النبي محمدٍ لحاجةٍ يذكرها، فقام بين يديه فأخذته رِعدة شديدة ومهابةً، فقال له النبي: ” هون عليك فإني لست بملكٍ ولا جبّار وإنّما أنا ابن امرأةٍ من قريش تأكل القديد بمكة “. وقد جاء في الحديث أنّه لمّا خُيّر الرسول على لسان إسرافيل بين أن يكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً، فنظر الرسول إلى جبريل كالمستشير له، فنظر جبريل إلى الأرض يشير إلى التواضع، وفي روايةٍ أخرى أشار له جبريل أن تواضع، فقال الرسول: ” نبياً عبداً “. هذا دليلٌ صريحٌ على أنّ الرسول لم يكن ملكاً ولم يطلب المُلك ولا توجهت نفسه إليه.

كما أنّ طبيعة الإسلام تأبى إلّا أن يكون دعوةً دينيةً إلى الله تعالى ومذهباً لإصلاح البشر وفتح سبيل السعادة الأبدية في الجنة التي أعدّها الله لعباده الصالحين، فالإسلام يَنشُد وحدة دينية للبشر يرتبط فيها البشر برابط الأخوّة ويكونون أمّةً واحدةً ليتحقق سلام هذا العالم وما يليق به من الكمال والسعادة، وهذا ما قصده الله بقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)  [النور/55]. فمن المعقول أن يأخذ كل العالم بدينٍ واحدٍ، لكن ليس من المعقول ولا من الممكن أن يأخذ العالم كلّه بحكومةٍ واحدةٍ وأن يشكلوا وحدةً سياسيةً مشتركةً فهذا خارج عن الطبيعة البشرية وخارج عن إرادة الله، فالله ترك تدبير الأمور الدنيوية لعقول البشر وعلومهم ومصالحهم وأهوائهم ونزعاتهم، ولله حكمةٌ في أن يبقى الناس مختلفين ومتدافعين ومتنافسين وهذا كلّه ليتحقق عمران الأرض، وهذا ما قصده الله بقوله (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود/118]، (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة/251]. حتى أنّ النبي نفسه أنكر أن يكون له في حكم وتدبير الأغراض الدنيوية شيء فقال: ” أنتم أعلم بشؤون دنياكم “.

إذاً لا الإسلام ولا الرسول أسسا لدولة، فإذا كان الرسول قد أسس دولةً سياسيةً أو شرع بتأسيسها، فلماذا خلت دولته إذاً من كثيرٍ من أركان الدولة ودعائم الحكم؟ ولماذا لم يُعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام المُلك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرةٍ واضطرابٍ من أمر النظام الحكومي في زمنه؟

وسنكمل في مقالٍ لاحق… يتبع

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى