مقالات الأعضاء

العلمانية (11): موقف الإسلام من إنشاء دولةٍ دينيّةٍ (1)

يؤكّد تاريخ اليهودية والمسيحية كأديان سماوية التناقض العميق والدائم بين الدولة والدين أو على الأقل عدم توافقهما، حيث ركّزت اليهودية على إعادة بناء الدولة الزمنية ممّا أدّى إلى تحوّلها إلى عصبيةٍ جماعيةٍ شبه قبلية معزولةٍ ومنعزلةٍ عن العالم.  ففي اليهودية ارتبطت الدعوة التوحيدية بروح التمرد والمقاومة التي أظهرتها قبائل العبرانيين ضدّ السيطرة التي كان الملوك الآلهة يسعون إلى فرضها على الناس لإخضاعهم، وهذا ما دفعهم إلى الرحيل وعبور النهر للابتعاد عن قبضة الإمبراطورية، لكن ظلّت الإمبراطورية تتعقب هذا الشعب المهاجر لتفرض عليه الانصياع والتسليم.

وبهذا سيتحول تاريخ بني إسرائيل إلى تمردٍ مستمرٍ والسبب في ذلك أنّ بني إسرائيل لم يفهموا من هذه الرسالة التوحيدية أنّه يتوجب عليهم بناء ملكوت الروح والنفس ووطن الحرية والوعي، ولكن فهموا منها إحلالهم في السلطة محلّ من سبقهم وتمليكهم ملك غيرهم وتمكينهم من استعبادهم، وهو ما يشكّل المتن الأساسي للعهد القديم؛ حيث فسرت اليهودية وجود الله وتفوّق سلطانه على سلطان الملوك على أنّه تفوّق لإله إسرائيل ووعد بنشوء مملكتها الكبرى على أنقاض ممالك الأمم الأخرى. ولم تولد المسحة الروحية للعقيدة اليهودية كعقيدةٍ للإحسان والعمل الصالح إلّا بعد تكوّن الممالك اليهودية وما عرفته من أزماتٍ ومفاسدٍ والتي كانت إدانتها والإنذار من مخاطرها هو الموضوع الدائم لدعوة الأنبياء والرسل حتى مجيء المسيح، فمقارعة الملوك وفضح فسادهم هو الذي أدى إلى تطوير وتعميق دعوة الفضيلة والتأكيد على الإصلاح وبلورة المُثل العليا والقيم الإنسانية الجديدة.

وبعد أن نجحت الملكية في تدمير كل مرتكزات الحكم السياسي اليهودي عند تدمير الهيكل سنة 587 قبل الميلاد ثم نفي اليهود، دخل الفكر الديني اليهودي بمأزقٍ كبيرٍ وتعددت الفِرق والمدارس الدينية وزاد الصراع بينها، وفي تلك الحقبة ذاتها زاد الطغيان وتعددت الحروب بين الإمبراطوريات والممالك القديمة الكبرى في الشرق (الإمبراطورية الرومانية وممالك ما بين النهرين ومصر الفرعونية) وكانت فلسطين (موطن اليهود) هي ساحة هؤلاء المتصارعين الكبار.

وقد تردد الفكر اليهودي في مواجهة هذه الأوضاع الصعبة، بين المقاومة والتمرد على السلطات حين تسنح الفرصة لذلك، وبين الانكفاء على موقف التقيّة والورع والتربية الخُلقية حين لا تسنح الفرصة للقتال؛ حيث أصبح موضوع الدين اليهودي انتظار المُخلّص والأمل بقدوم المسيح المُنقذ. وأدى احتلال القدس من قِبل الرومان على أثر التمرد اليهودي عام 66 م وتدمير الهيكل للمرة الثانية عام 70 م، إلى وضع اليهودية في مأزقٍ نهائي حيث بدأت تفقد شيئاً فشيئاً تمسكها بحلم القيامة وعودة مملكة إسرائيل وبدأت العمل على تدعيم موقع الشرع والكنيس اليهوديين وتأكيد مكانة الكتاب المقدس.

وخلال هذه الحقبة التاريخية ولدت المسيحية لا كدينٍ جديدٍ في بداية الأمر ولكن كإصلاحٍ داخل الدين؛ حيث كان مركز قوة الدعوة المسيحية هو التبشير بقدوم ملكوت الله والساعة القريبة، وكان جوهر رسالة المسيح تخليص المشروع الرسالي التوحيدي من النزعة الملكية والثيوقراطية التي كانت واضحة في اليهودية، ففي مقابل الوعود التي كان يُطلقها أنبياء إسرائيل لإعادة بناء الهيكل ومُلك إسرائيل، وعد المسيح اليهود والناس جميعاً بحرارة اللقاء مع الله والخلود في مملكة الروح البعيدة عن هذا العالم والمجسِّدة للعدل والمحبة والتسامح، وبذلك أصبح الدين التوحيدي رافضاً للسلطة القهرية المجسِّدة للدولة ورافضاً لإعادة بناء الإمبراطورية، فاستغنت الروح في المسيحية نهائياً عن الجسد والطبيعة والرغبة وتجردت عن العالم وانفتحت انفتاحاً مطلقاً على الله، وكان انتظار القيامة بين يومٍ وليلةٍ هو المقوّم الحقيقي للذين آمنوا بالمسيح.

 ويذكر إنجيل لوقا أنّه عندما كان المسيح بالقرب من القدس كان الناس يتخيّلون أنّ ملكوت الله سيظهر في الثانية ذاتها. فلم يبنِ المسيح كنيسةً ولا أقام هيكلاً وإنّما كان يُعّبر عن رسالته بالعطف والمحبة والإحسان ويدعو أن تكون هذه القيم مصدر القرابة والاجتماع في الله. ولم تنشأ الكنيسة إلّا بعد تضافر فكر المسيح والفكر اليوناني في عقل القديس بولس، وهذا ما تولّد عنه بناء الجماعة المسيحية الأرضية والكنيسة كجامعةٍ لها وكإطارٍ زمنيٍ لتنظيم الجماعة بانتظار اليوم الموعود، والتي تحوّلت فيما بعد إلى دولةٍ وسلطةٍ وأداةٍ فعّالةٍ لنشر المسيحية سنداً للاعتقاد الذي كان سائداً بأنّ القيامة قد تأخرت ويمكن أن تتأخر أكثر في سبيل إتاحة الفرصة لنشر رسالة المسيح بين جميع الناس.

بعد تحوّل الكنيسة إلى دولةٍ وسلطةٍ وتماهيها مع سلطة روما على يد قسطنطين الكبير وانحرافها عن مسارها، بالإضافة إلى الأزمة والصدمة التي عانتها بعد صلب المسيح الفادي والتي أدت إلى انتشار اليأس والتشاؤم بما كان يعنيه صلب المسيح من انتصارٍ ساحقٍ ونهائيٍ للإمبراطورية، تجدّدت الدعوة التوحيدية مرةً أخرى وكان مركزها شعباً جديداً وأرضاً جديدةً كانت في معزلٍ عن التنازع الإمبراطوري على العالم، حيث ظهرت الدعوة الجديدة في الجزيرة العربية وعلى يد رسولٍ عربيٍ، ولذلك اعتبر الإسلام نفسه منذ البداية مكمّلاً لا نافياً للأديان السماوية الأخرى، وجاء منتقداً اليهود والمسيحيين لأنّهم فرّطوا بالرسالة وشوّهوا معانيها سواء بسبب صدّهم للرُسل وخذلانهم لهم وتمسكهم بالدنيا وهذا حال بني إسرائيل، أو بسبب إفساد عقيدة التوحيد وإدخال التثليث عليها واعتبار المسيح ابن الله وإماهتها مع السلطة وهذا هو حال المسيحيين.

وهكذا عاد الإسلام ليؤكّد من جديد على التوحيد وعلى يوم الساعة وأنّها آتية لا ريب فيها وعلى أنّ الدنيا فانية بكل ما تحتويه من مصالح، فقد عاش أتباع النبي محمد الأوائل معتقدين أنّ حياتهم ليست إلّا فرصةً للإعداد ليومٍ ترقى الأرواح جميعها إلى خالقها وتدخل في جنته الأبدية، وذلك عن طريق محاربة الشِرك والقضاء على الوثنية والتأكيد على الإيمان الفردي المباشر الحرّ والمستقل عن أيّة سيطرةٍ خارجيةٍ وذلك برفض السلطة الكهنوتية بكل تجسيداتها، وهذا ما جعل الإسلام خاتم الرسالات وأكملها؛ فقد جمع بين رسالة السيد المسيح التي هي التبشير والبشارة بالخلاص عن طريق الإيمان بالله الواحد، ورسالة موسى التي لم تكن تكتفِ بالتبشير لكنها تدعو إلى القتال والشهادة في سبيل نشر الدين الحق، ولكن الإسلام أكّد على أنّ هذا القتال ليس في سبيل تأسيس مُلك أو دولة ولكن في سبيل نشر الدعوة فقط وتحرير الإنسان من قيود العبودية للدولة أو للسلطة أو للفرد، وبهذا ولد الإنسان الفرد الحر والمتحرر من أيّ قيدٍ حتى من قيود السُلطة الدينية ذاتها، أي تحرر العقل وهو النور الذي وضعه الله في كل فرد فصار هو الذي يهدي الإنسان، لذلك لم تعد هناك حاجة لنبوةٍ جديدةٍ فالعقل قد ورث النبوة وهو الذي تسلّم القيادة الروحية بعد النبي محمد، فلو كان هناك حاجة لهدايةٍ جديدةٍ أو لتبشيرٍ لما اختُتمت النبوّات، وهذا معنى استنكار القرآن للسلطة الكهنوتية فالإنسان أصبح قادراً على أن يسير بنفسه ويرمي بذاته في العالم ليتعرّف على نفسه من خلاله، وصار كل توقيفٍ لهذه الحرية أو مصادرةٍ لها هو إعادةٌ للعبودية ولم تعد الدولة مقبولةً إلّا إذا كانت تكفل هذه الحرية بالذات.

وسنكمل في مقالٍ لاحق… يتبع

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى