مقالات الأعضاء

العلمانية (6): مبررات الأخذ بالعلمانية (الجزء الأول) حول خطر الدولة الدينية (1)

إنّ التاريخ ومن ثمّ الحاضر يقدمان لنا أوضح وأقوى المبررات التي تدفعنا للتمسك بالعلمانية؛ من خلال الحروب التي أدخلنا فيها التعصب الديني وممارسات القمع التي باشرتها السلطات الدينية. فالمذابح التي اقتُرفت في الحروب الصليبية وسائر الحروب الدينية، والمحارق التي أضرمتها محاكم التفتيش، وتواطؤ الكنسية مع الفاشية في إسبانيا خلال حكم فرانكو، ودعم الفاشية في أوكرانيا النازية، وجرائم الأصوليين في الجزائر وأفغانستان، عدا عن الحروب التي تتجدد دوريًا بين المذاهب الدينية كما في الهند وأيرلندا الشمالية والعراق ولبنان وغيرها… كلّها عبرت عن التاريخ المأساوي الذي تورطت فيه المذاهب الدينية عندما انحرفت وأصبحت سلطاتٍ زمنيةً.

وتأخذ أساليب القمع التي باشرتها وتباشرها السلطات الدينية أشكالًا متنوعة: مثلًا فرض معتقد رسمي للدولة واضطهاد المعتقدات الأخرى، ومراقبة تأويل النصوص الدينية والإيمان نفسه عبر مفاهيم الصراطية ومفاهيم الهرطقة، ورقابة الأعمال العلمية والفنية والفلسفية، ووضع المؤسسات التعليمية والتربوية تحت الوصاية، ووضع قائمة من مفاهيم ومعاني التحريم تُطلق على كل من لا يؤمن أو من كان إيمانه مختلفًا عن الإيمان الشائع (الزنديق والمارق والكافر والمرتّد والجاحد والمهرطق…)، وذلك لأنّ فعاليات الفكر البشري ونشاطاته لها بُعدٌ تحرري وتُربك العقائد المرتبطة بالمرجعية.

فقد ترافق التضييق على الفكر بنوعين من السياسات تُباشرها السلطات الدينية:

أولها سياسات تنطوي على إنزال العقوبات بالمفكرين سواء منها الجسدية (التعذيب والجلد والسجن والحرق…)، أو المعنوية (التنكر للمعتقد والتحول القسري إلى الدين والنقض الذاتي العلني وحمل علامات مخزية…)، هذه الوسائل استعملتها محاكم التفتيش ضدّ المؤمنين الذين كانوا يفسرون العقيدة بشكلٍ مختلفٍ، وعلى أتباع المذاهب الأخرى مثل اليهود والمسلمين في إسبانيا والبروتستانت أيام الإصلاح المضاد ابتداءً من العام 1542م. فمحكاكم التفتيش أحرقت الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو حيًا عام 1600م لدفاعه عن فكرة لا نهاية الكون، وفي عام 1632م أُجبر غاليليو على إنكار نظريته عن حركة الأرض وإلّا نال المصير نفسه.

وثانيها سياسات ممنهجة لإحراق الكتب ووضع الكثير منها على قائمة التحريم، ومنها كتب لدانتي وديكارت وكالفان وغاليليو وكانت ومنتسكيو وباسكال واسبينوزا وفولتيير وروسو وهوغو… وفي هذا السياق نورد ما قاله هوغو مخاطبًا الحزب الإكليريكي في كتابه “خطاب عن قانون فالو” الصادر عام 1850م، إذ قال: “ها قد مرّ زمنٌ طويل على تمرد الوعي الإنساني عليكم وهو يسألكم ماذا تريدون مني؟ ها قد مرّ زمنٌ طويل وأنتم تحاولون خنق الفكر الإنساني، ومع ذلك تريدون أن تكونوا سادة التعليم! فأنتم ترفضون كل شاعرٍ وكل كاتبٍ وكل فيلسوف، ولا تقبلون بأيّ مفكر؟ إنّكم ترفضون كل ما كُتب وكل ما وجد وكل ما حُلم به وكل ما استُنتج وكل ما وضّح وكل ما تخيله العقل وكل ما اخترعه العباقرة، وكنز الحضارة وإرث الأجيال عبر الزمن والتركة المشتركة للمتنورين. ولو كان مخّ الإنسانية أمام أعينكم وتحت تصرفكم مفتوحًا كصفحةٍ من كتاب، فإنّكم سوف تحدثون فيه بعض الشطب”. 

إذًا فالأديان تتحوّل على يدّ معتنقيها إلى مراقبٍ دنيويٍ يسعى إلى إكراه الناس على اتباع طريقٍ محددٍ يوصل إلى الله، فالدول الدينية عادةً تنشأ في ظلّ ظروفٍ وعواملٍ اجتماعيةٍ وتاريخيةٍ وسياسيةٍ معينة، وهي تُعد دولًا تنطوي على خطورةٍ بالغةٍ كونها تبدأ بخلق ظروفٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ من شأنها أن تشكّل بؤرةً لظهور دولٍ دينيةٍ متتاليةٍ، وكذلك لأنّ القائمين على هذه الدول يتملّكون ويحتكرون أدوات الدنيا والدين، فالحاكم في الدولة الدينية إمّا أن يحتكر سلطة تأويل النصوص الدينية أو على الأقل يجبر الناس على تنفيذ اجتهادات وأحكام الهيئات الدينية التي يتبادل معها الخدمات والمصالح؛ فيُضفي عليها طابع الشرعية في مقابل أن تُضفي عليه طابع الشرعية الدينية، ففي الدول الدينية يُلاحظ تدين جهاز السلطة لا تدين المجتمع والفرد.

وخطورةٌ أخرى تشكّلها الحكومة الدينية وهي أنّها نقيضٌ للديمقراطية؛ فالحكم الديني لا يرى أنّه بحاجةٍ إلى شرعيةٍ صاعدةٍ من تحت (الشعب) ما دام يعتقد أنّ شرعيته هابطةٌ من فوق (الإله) وهذه الشرعية الإلهية كافية لأن يتسيّد على الرعية. والخطورة الأبرز تتعلق بقضية حقوق الإنسان؛ فقواعد ولوائح حقوق الإنسان المتّفق عليها دوليًا ليست من معتقدات الحكم الديني أبدًا، حيث يرى هذا النوع من الحكم أنّ هذه الحقوق كُتبت بغض النظر عن حقوق الخالق وبغض النظر عمّا تقرره الأديان، فهي تتعامل مع الإنسان بشكلٍ مجردٍ عن الدين.

ولهذا يرى عبد الكريم سروش الذي خبر معنى العيش في ظلّ حكومةٍ دينيةٍ (الحكومة الإيرانية) أنّ الدين يقدم لأتباعه تعريفًا للإنسان ينسجم مع الرؤيا الدينية، فلا يرى له أيّة حقوق سوى تلك الحقوق التي يقررها الدين، ولذلك فإنّ استبدال هذه الحقوق بالحقوق الواردة في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان يستلزم إجراء تغييرٍ في تعريف الإنسان نفسه، وهذا هو سبب الصدام الدائم بين علماء الدين والتعاريف الجديدة للإنسان ولحقوقه. في النتيجة إنّ الدول التي تُدير أنظمتها حكومات دينية تتّسم بالشمولية والتغوّل على المجتمع المدني فهي تدّعي الاستناد إلى مبرراتٍ علويةٍ إلهيةٍ تتجسّد بنصوص دينية سواء كانت موجودةً أساسًا أم كانت هي من وضعها أم احتكر تأويلها. 

وسنكمل الحديث حول خطر الدولة الدينية في مقالٍ لاحق… يتبع…

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى