مقال رأي

وسم الانتفاضة المدنية في سوريا بالحرب الأهلية الطائفية

إنّ معظم الاختلافات في المجتمعات نشأت نتيجة الخلافات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، وجذور هذه الاختلافات قد تعود إلى صراعاتٍ حدثت منذ وقتٍ طويل، أو ربما نشأت أخيرًا وفق التغيّرات السياسية والأيديولوجية والاجتماعية في المجتمع والدولة.

كما أنّ الموروثات والآراء والمعتقدات التي تخاصم الآخر السائدة في مجتمعاتنا وسمته بصفة التعصّب، سواء أكان طائفيًا أم سياسيًا، فتحول الاختلاف إلى توترٍ وصراع، فالطائفية تؤدي إلى تقسيم الدولة إلى مجموعاتٍ أو مجتمعاتٍ متباينةٍ على أساس الانتماء الإثني أو الديني، ويؤدي ذلك إلى الترويج للولاء على أساس الطائفة، من أجل تحقيق غاياتٍ سياسيةٍ معينة، كما تلعب الأنظمة السياسية بشكلٍ عامٍ دورًا محوريًا وحيويًا في تشكيل الهيكلية السياسية للدول التي توجد فيها، وبذلك تصبح تلك الهيكليات مصيريةً وفعّالةً في خلق الطائفية أو تعزيزها أو القضاء عليها. وكذلك الحال في سوريا حيث أثبتت الأحداث خلال قرنٍ من عمر الدولة السورية أن الدين كان عنصرًا رئيسيًا في الصراع السياسي؛ ( وسأوضح هذه الجزئية بمقالٍ لاحق).

لم تندلع الثورة السورية في بدايتها بسبب الطائفية، بل بسبب القمع وغياب الحريات السياسية، وارتفاع نسبة البطالة والفساد، وجراء فشل الإصلاحات الاقتصادية التي طبّقها نظام بشار الأسد، حيث أدى هذا الفشل لتفاقم التفاوتات الاجتماعية، وإغراق عددٍ كبيرٍ من السوريين في فقرٍ مدقع، وبالتالي لا تُرسم الخطوط الفاصلة بين المحتجين وبين الموالين للنظام حول الانتماءات الطائفية والإثنية. فالانقسامات تحدث داخل الجماعات الطائفية نفسها، وفي العائلات، وبين المناطق التي تأثرّت بالتحوّلات الاجتماعية. وهذا ما يضع المُهمّشين في مواجهة المُنتفعين، والمؤمنين ضد المؤسسات الدينية، والشباب ضد الكبار.

فيرى الناشطون ضد النظام بأن الصراع اجتماعيٌ وسياسي، فالمعركة تدور رحاها بين المُفقَرين والمحرومين من حقوقهم من جهة، وبين نظامٍ سلطويٍ وظالمٍ ومتعسّفٍ ومعه عملاءٌ طُفَيليون ينفذون أوامره من جهةٍ أخرى. وسرعان ما تلاشت هذه الرؤية، وحلّت مكانها تفسيراتٌ صنّفت الأحداث على أنّها صراعاتٍ طائفية.

أما النظام ومؤيدوه فقد صوّروا النزاع على أنه دفاعٌ عن التعددية الدينية في سوريا ضد التطرف الديني السُنّي، الذي تسعى أطرافٌ خارجيةُ لتكريسه. وردّت المعارضة بأن المعركة هي نضالٌ ضد نظامٍ جعله طابعه العلوي معاديًا بعنفٍ للتيار الإسلامي السُنّي السائد. فالهجمات على المساجد السُنّية، التي كانت الملاذات الوحيدة المتوافرة للمُحتجين، اعتُبرت إثباتًا دامغًا على التحيُّز الطائفي للنظام. ومن الطرف الآخر فُسِّرت عمليات اغتيال ضباط الأمن العلويين على أنها دليلٌ على انتشار الكراهية الطائفية في صفوف المعارضة، لا كردٍّ على عملاء نظامٍ مقيتٍ واجه مُحتجّين مُجرّدين من السلاح بالذخيرة الحيّة.

هذه التصوّرات تركت بصماتها الواضحة على سلوكيات ومواقف الرأي العام لكلا الجانبين، وأشعلت لهيب الاتهامات المتبادلة والمخاوف والعنف.

لكن، إذا لم يكن سبب هذا النزاع يعود إلى أكثر من ألفية من الكراهية الطائفية التي أوقدت ألسنتها جملة عوامل، منها ضعف النظام والتدخلات الإقليمية والدولية، فلماذا ساد مفهوم الصراع الطائفي الوجودي بهذه السرعة؟ ولماذا عجز المحتجون عن إقناع عدد كافٍ من السوريين، خاصةً غير السُنّة منهم، بأن “الشعب السوري واحد” في خضم نضالهم ضد النظام؟ لماذا استسلم الكثير من السوريين إلى تأجيج المخاوف التي أثارها نظامٌ كان يزدريه الجميع (بمن فيهم المستفيدون منه) ويدركون مدى فساده وريائه وانتهازيته؟

إنّ الاستغلال الشرير للطائفية الذي مارسه النظام، هو الذي حَرَفَ الانتفاضة بعيدًا عن توجّهاتها الأوّلية المدنية والشاملة للجميع. ووصف الثورة بأنّها وليدة تطرّفٍ طائفيٍ سنّي، بثّ الرعب في أوصال الأقليات الدينية ودفعها إلى الوقوف إلى جانب النظام. وأخاف العناصر الليبرالية في الأغلبية السُنّية التي تخشى تحوّلًا نحو نزعةٍ دينيةٍ جامدة ٍومحافظةٍ تفرضها الدولة، وهذا القلق يؤثّر أيضًا على المجتمعات الغربية التي يزدهر فيها الخوف المَرَضِي من الإسلام (الإسلاموفوبيا).

كما أنّ قراراتً ومواقفًا وتصرفاتً معيّنةً اتُّخذت على أعلى مستويات النظام، تؤخذ كدليلٍ على أنّ مجموعةً من عناصر السلطة دفعت الوضع نحو صراعٍ طائفيٍ سافر، كما أنّ مهاجمة المساجد على يد قوات النظام والمجندين غير النظاميين من الأقليات خاصة العلوية، والمليشيات الشيعية التابعة لإيران، وإطلاق المتطرفين والجهاديين من السجون، كل ذلك عزّز الأبعاد الطائفية للصراع.

من جهةٍ أخرى، ظهرت في السنة الأولى للثورة حالاتٌ من العنف واحتجاجاتٌ ضد العلويين في بعض المناطق تحمل بصماتٍ دينيةٍ سنّية، فاقمت المخاوف من الآخر الطائفي، ماعزّز العنف وأجّجه.

هذه الطائفية التي غُرِسَت في تربة المجتمع السوري، تعود جذورها إلى أنماط الحكم التي مارسها النظام السوري، والتي خلّفت وراءها إرثًا ثقيلًا من العنف، خاصةً بعد الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين في أوائل الثمانينيات. وهكذا وبدلًا من أن تكون الطائفية مُعطىً وجوديًا قَمَعَه نظامٌ علمانيٌ مُفترض، كانت في الواقع ثمرة السلوك السياسي لهذا النظام بالذات. وحالما تعرّض هذا الأخير إلى تحدياتٍ خطيرة، كانت الطائفية جاهزةً للاستخدام كأداة تعبئةٍ له كما لخصومه، ووفّرت الوقود لتغذية نيران النزاع العنيف.

لذا، ما لم يتم تغيير نظام الحكم الحالي في سوريا بشكلٍ جذري، وما لم يُكبح جماح أجهزة الأمن المُنفلتة، وما لم تُطبق الآليات العملية الخاصة بالمحاسبة والمساءلة لتطبيق العدالة، فلن تُسفر الحلول السياسية المقترحة لانتهاء النزاع، إلا عن ترسيخ اللااستقرار وتعميق الانشطارات في الكيان السوري.

مارغريت (ناشطة مدنيّة مستقلّة)

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى