مقال رأي

تاريخ وحقيقة تكريس الفكر الطائفي والشوفيني في الشرق الأوسط عامةً وسوريا خاصةً

يكمن جوهر الانقسام بين السُنّة والشيعة في الخلافة السياسية للنبي محمد، فبعد وفاته عام 632 م اختلف المسلمون حول من سيخلفه كحاكمٍ للمجتمع المسلم، فنخبةٌ من أتباع النبي محمد اختارت عبد الله بن أبي قحافة والمعروف باسم أبي بكر صاحب النبي وصهره خليفةً له في حُكم الأمّة، ألّا أن أقليةً من المسلمين اختاروا عليًا بن أبي طالب ابن عم النبي وصهره، فأصبح غالبية المسلمين الذين اتبعوا أبا بكر يُعرفون باسم السُنيين نسبة إلى السُنّة والتي تعني الطريقة، ودعموا اختيار الخلفاء ليخلفوا محمد. وهؤلاء الذين دعموا عليًا  صاروا يُعرفون باسم الشيعة (شيعة علي، أو أشياع علي) ويعتقدون بوجوب انحصار الخلافة في نسل النبي محمد.

عاش الشيعة تحت سلطة الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين لم يكونوا من نسل محمدٍ ولكنهم لم يعتبروهم حكامًا شرعيين إلى أن جاء الخليفة الرابع علي بن أبي طالب عام 656 م، الذي حكم خمس سنينٍ قبل اغتياله بسبب تباين آرائه عن آراء أتباعه، وآلت الخلافة بعد ذلك إلى الذين هزموا عليًا مُعلنين بذلك بدء الخلافة الأموية، وكثيرًا ما تعرّض أتباع علي للاضطهاد والقتل لأنهم استمروا في اعتقادهم بأحقية نسل النبي محمد عبر علي في الخلافة، متبعين الحسين بن علي زعيمًا لهم. إلى أن حدثت الطامّة الكبرى للانشقاق السُني الشيعي، وهي معركة كربلاء التي نشبت في العراق عام 680 م، حيث أمر الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية بقتل الحسين وأتباعه، واستمر الشيعة بعد مقتله باتباع أخلاف الحسين وعلي في سلسلةٍ واضحةٍ من أئمة الشيعة باعتبارهم قادتهم الدينيين والسياسيين الشرعيين.

واستمرت الخلافة السُنية الأموية ثم العباسية التي أجهضت ثورات الشيعة على أراضيها بوحشيةٍ لأسبابٍ سياسيةٍ خوفًا من انتقام الشيعة لموت الحسين واضطهادهم طوال هذه الفترة، فيثوروا ويخلعوا الخليفة، واستمر الخلاف بين السُنّة والشيعة لكنه تحول من خلافٍ عقائديٍ إلى صراعٍ على السلطة، إلّا أنّ الانقسام الطائفي بين السُنّة والشيعة كان أقل على المستوى الفردي وفي ازدياد على مستوى القيادة مع الاستمرار في الصراعات السياسية على الموارد والأراضي والحق في الحُكم إلى يومنا هذا.

والخلافة الوحيدة التي يحكمها الشيعة في تاريخ المنطقة هي الخلافة الفاطمية التي ظهرت في شمال إفريقيا عام 909 م، ونافست الخلافة العباسية حيث تجمع الفاطميون في القاهرة ونجحوا في نشر الإسلام الشيعي في أجزاء من أراضي الخلافة العباسية كما نجحوا بتنفيذ عمليات اغتيالٍ للقادة العباسيين في محاولةٍ لإحداث فوضى سياسية، ممّا زاد من حدة الطائفية في المنطقة.

واستمرت الطائفية في بداية العصر الحديث في الظهور بشكلٍ رئيسيٍ على أنّها منافسةٌ سياسيةٌ بين القوى الإقليمية متمثلةً بالدولة الصفوية الشيعية في فارس والإمبراطورية العثمانية السُنية في تركيا، فقد عقد العزم الحاكم الصفوي إسماعيل الأول ذو الأصول التركية على إقامة إمبراطورية شيعية ذات هوية منفصلة عن الإمبراطورية العثمانية السُنية التركية، فدعا رجال الدين والعلماء في المراكز الدينية الشيعية الكبرى في مصر ولبنان للقدوم إلى إيران وإقامة نظامٍ قانونيٍ يستند إلى التشريع الشيعي، وأجبر السُنة الذين يعيشون في المناطق الصفوية على اعتناق المذهب الشيعي وتعرض العديد من رجال الدين والعلماء السُنة إلى التهجير من الإمبراطورية أو القتل، ممّا أدى إلى حدوث ردة الفعل ذاتها ضد الشيعة في أراضي الإمبراطورية العثمانية، ومع تراجع هيمنة الإمبراطوريات في أواخر القرن الثامن عشر أصبح التسامح تجاه الطوائف الأخرى أكثر شيوعًا وأصبحت الانتماءات العرقية المحلية والقبلية والهوية السياسية الأكثر بروزًا، فأدرج العثمانيون الشيعة تحت ملّة الإسلام مثل السُنّة فاشلين في الاعتراف بهم كطائفةٍ منفصلةٍ ذات شرعية.

وبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية قسمت الدول الغربية وفق اتفاقية سايكس بيكو الأراضي العثمانية إلى عدة دولٍ نظم البريطانيون والفرنسيون التنظيم السياسي فيها وفقًا للمذاهب الطائفية، واتبعوا خلال فترة الانتداب استراتيجية تفضيل طائفةٍ واحدةٍ لإدارة الدولة بأكملها فضلًا عن تشجيع الانقسامات الطائفية القائمة لإبقاء تلك الدول ضعيفةً وعالةً على حكامها.

ومع ذلك كان هناك تعاونًا سنيًا شيعيًا ردًا على التدخل الأجنبي في الشرق الأوسط، ففي سوريا تعاونت كافة الطوائف للوقوف في وجه الاحتلال الفرنسي، وتعاون سنة وشيعة لبنان لمقاومة إدراجهم في دولة لبنان الكبير تحت حكم المسيحيين الموارنة، كما تعاون سنة وشيعة العراق لطرد الاستعمار البريطاني، تبع ذلك الانتشار السريع لحركة القومية العربية التي رسخت لسلطةٍ سياسيةٍ في ظل حكّامٍ استبداديين ادّعوا العلمانيّة، أكدوا على أنّ الوحدة العرقية والوطنية ذات أولويةٍ على المصالح الطائفية الضيقة، فدعم الرئيس المصري جمال عبد الناصر رجال الدين الشيعة ضد الشاه الإيراني، وسمح لمركز سني بارز، جامعة الأزهر، بتدريس المذهب الشيعي، كما قاوم حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سوريا والعراق الانقسامات الطائفية حيث كان الزعماء عسكريين معادين للإسلاميين. وصاغ حافظ الأسد في سوريا ثقافة الوحدة الوطنية بعنايةٍ من خلال إشراك أفراد الأغلبية السُنية في مناصبٍ حكوميةً رئيسية بشكلٍ استراتيجي، إلّا أنّه قمع بوحشيةٍ تحديات الحركات الإسلامية لحكمه حيث سحق انتفاضة حماة عام 1982 م.

فأدى الحُكم الاستبدادي الذي ادّعى أنّه علماني إلى صعود نجم الحركات الإسلامية التي مهدت الطريق للطائفية الأشد التي نشهدها اليوم.

إنّ الطائفية ليست ظاهرةً جديدةً في سوريا. فالعثمانيون كانوا أوّل من قسّم المجتمع السوري على أسسٍ طائفية عندما ابتكروا ” نظام المُلل” الذي ساهم في تقسيم المجتمع السوري صراحةً وقانونًا على نحوٍ طائفي، وازدياد التكتل المذهبي فيها خاصة مع حصر علاقة الدولة مع مواطنيها غير المسلمين عن طريق طوائفهم الدينية. كون رؤساء الطوائف المختلفين بعد تثبيتهم من قبل السلطان تغدو لقراراتهم صفة القانون النافذ في الشؤون الدينية والمدنيّة، ففي ختام العهد العثماني كان ما بين 25 و 30% من السكان مسيحيين وما بين 70 و 75% مسلمين عمادهم الرئيسي السٌنّة وهم الأغلبية يليهم العلويون والإسماعيليون والدروز، وأقليةٌ أخرى من الشيعة الإثني عشرية رغم أن هذه المجتمعات الدينية لم تعتبرها الدولة مسلمة، وعددٌ وافرٌ من اليهود في دمشق وحلب والقامشلي.

كما شجع الفرنسيون على الانقسام الطائفي والحكم الذاتي للمناطق، في كل من لبنان وسوريا كما ذكرنا سابقًا. واستعان آل الأسد بهذه التقسيمات نفسها لحكم البلاد منذ سبعينات القرن العشرين. ولطالما عيّن  بشار الأسد أبناء العشائر العلوية في مناصب رئيسية، في حين وازن إدارته بشخصياتٍ معينةٍ من العرب السنة. ويتركز العلويون داخل المؤسسات العسكرية والاستخباراتية، مما يفسّر سبب استغراق الأمر وقتًا طويلًا قبل انفجار الوضع  في البلاد. وعندما قامت الثورة في عام 2011، كان العلويون يشكلون قرابة السبعين في المائة من موظفي الدولة، وقد حال الأمان الذي شعروا به خلال وجود الأسد في السلطة دون انضمامهم إلى المعارضة. وعندما كان النظام ضعيفًا في المراحل الأولى للحرب، اقتصرت المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد على معاقل الأقليات وخاصة دمشق، حيث لم يتمكن المتظاهرون – الذين كانوا بمعظمهم من السُّنة في البداية – من اختراق الطوق الطائفي الذي يحيط بالمدينة.

وفي المقابل، تتجلى الانقسامات الطائفية في البلاد في جغرافيتها. فالنصف الشرقي من سوريا، بخلاف نصفها الغربي، لا يزال يفتقر إلى التنمية والتطور لأن الأسد لم يبذل الكثير من جهود التنمية الحكومية فيه. أما في الجنوب، فيتألف سكان درعا بمعظمهم من السنة وبعض المسيحيين، ولذلك تدنت فيه مستويات العنف الطائفي، فالتظاهرات التي انطلقت من درعا توقفت عند جبل الدروز حيث بقي معظم السكان موالين للأسد. وفي وقتٍ لاحق، أصدر التنظيم الجهادي للعرب السنة المعروف بـ «هيئة تحرير الشام» حكمًا بالإعدام على الدروز الذين انضموا إلى المعارضة، ليعطي بذلك العبرة بأن الولاء للطائفة هو الأهم وأنّ الخيار الآخر الوحيد المتوفر هو مغادرة سوريا.

فضلًا عن ذلك، لعبت الانقسامات الاجتماعية والعشائرية دورها في الحرب، وحلب هي خير مثالٍ عن الصدوع الاجتماعية. فالطبقتان العليا والمتوسطة من سنّة المدينة لم تدعما حركة المعارضة التي نشأت في صفوف الطبقة الدنيا من السنة. وفي الواقع، سارع أثرياء السنة في غرب حلب إلى الإعلان عن ولائهم للنظام خوفًا من اندلاع الانتفاضة فيها. وعلى النحو نفسه تميل العشائر السورية إلى دعم أي جانب يبدو أكثر احتمالًا للفوز، لذلك اتَهمت المعارضة العشائر بموالاتها للنظام.

وفي الوقت الراهن، يشعر السكان العرب في شمال سوريا وشرقها باستياء خاص من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي أطاح بالقيادة العشائرية واستحوذ على العديد من المناطق وتجاهل إلى حدٍ كبيرٍ توصيات المجالس القبلية في منبج وغيرها من البلدات. وحتى في الرقة، تلك المدينة التي لا يوجد فيها عددٌ كبيرٌ من السكان الأكراد، أصبحت إشارات الطرق المكتوبة بالعربية تشمل حاليًا كتابة باللغة الكردية، بينما يرأس المجالس مسؤولون أكراد. ويبدو أن قادة حزب الاتحاد الديمقراطي يعتقدون أنّ من واجبهم تعليم العرب أسلوب الحُكم السليم، ويتعاملون مع احتلالهم على أنّه مشروع تحوّل ديمقراطي. ومع ذلك، فإنّ الوضع مستقر الآن لأنّ القوات الكردية توفّر الأمن في المنطقة، وكل ذلك طبعًا بدعمٍ من الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن ناحية الأزمة في عفرين، فإن العديد من المقاتلين العرب في قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد لن يرغبوا في خوض المعارك هناك إذا طُلب منهم ذلك. فقد انضموا إلى تلك القوات للحصول على الرواتب، وليس بدافع أي شعور بالواجب. وحاليًا ينتظر الأسد منهم ومن السكان العرب الآخرين رفض الزعامة الكردية، آملًا في استغلال هذا الشرخ القومي ليضمن سيطرته على شمال البلاد.

 يتعيّن على الولايات المتحدة الانخراط بصورة أكثر في الشمال والاستعداد بصورة أكبر لمواجهة التدخل الإيراني، وإلا انتهى أمر الأكراد.

ومن جانبها، تواصل طهران بناء الطرق عبر الأراضي العراقية والسورية. إذ تجيد إيران استغلال الأقليات الشيعية والمحلية الأخرى من أجل منع الغالبية السُنية من فرض سيطرتها، حتى أنّها قد تكون مستعدةً لمساعدة أثرياء السُنّة السوريين في الوصول إلى الأسواق العراقية.

وفي المقابل، لدى روسيا طرفٌ مفضّلٌ واضحٌ وهو العلويون. وقد قرر الكرملين إنشاء قاعدةٍ جويةٍ جديدةٍ على أراضيهم. لكن موسكو لا تزال تمارس اللعبة الطائفية مع الأكراد، لأنّ إبقاء حزب الاتحاد الديمقراطي شبه حيٍّ وناشطٍ يمكن أن يساعد في الحفاظ على الضغط على تركيا. وبالمثل، لا يبدو أن العرب في البلدات الشمالية الغربية يرحبون ترحابًا حارًا بتدخل أنقرة وينظرون إلى القوات التركية من المنظار نفسه الذي ينظرون به إلى الجيش السوري الحر.

لقد استخدم نظام الأسد استراتيجية “فرّق تَسُد” لمسك زمام السلطة. وخلافًا للمحللين الروس ووسائل الإعلام الروسية، لم يقر المراقبون الغربيون بأهمية الفسيفساء الطائفية في البلاد واعتبروها غير جوهرية. ومع ذلك، استخدم النظام هذا العامل بالذات لتغيير مجرى الحرب واستعادة معظم الأراضي التي خسرها.

وفي الختام نقول أنّ هناك بذورًا للطائفيّة في مجتمعنا وبذورًا للشوفينية كذلك، لكن لم نكن نشعر بها في الفترات التي لم تكن تستخدم سياسيًا، ومن هنا نرى النور في نهاية النفق، فإن كنّا على درجةٍ كبيرةٍ من الوعي الذي نمنع من خلاله القادة السياسيين والدينيين وأصحاب رؤوس الأموال الساعين لتوسيع نفوذهم، من استغلال خلافاتنا، فستنطفئ نار الطائفية والشوفينية وسنستطيع ردم الفجوات فيما بيننا لنصل لمجتمعٍ مدني حقيقي ولدولةٍ علمانية حقيقية.

مارغريت (ناشطة مدنيّة مستقلّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى