مقالات الأعضاء

العلمانية (18): علاقة الدولة بالدين في التجربة السياسية العربية الإسلامية عبر التاريخ (4)

لقد طرح بعض المفكرين في عصر النهضة فكرة العلمانية، ويرى عابد الجابري أنّ الدعوات التي ظهرت للعلمانية في الدول العربية كانت من قِبل الطامحين إلى الاستقلال عن الأتراك، فالإمبراطورية العثمانية كانت تحكم باسم الخلافة وتمارس الاستبداد والتعسّف على العرب مسلمين ومسيحيين باسم الإسلام، فالنهضة ارتبطت في أذهان المفكرين العرب بفصل الدين عن الدولة وتحقيق نموذج نهضة عربي مشابه للنموذج الأوروبي لأنّ الاستبداد التركي المتلبّس بالدين هو الذي كان سبباً في تخلف الأقطار العربية من وجهة نظر هؤلاء لذلك أوجبوا الحدّ منه عن طريق الاستقلال وفصل الدين عن الدولة.

والنقاش المستمر اليوم حول مسألة الدين والسياسة والدولة في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة هو أحد تجليات التحولات العميقة في البلاد العربية على مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية والدولية، حيث كان المفكرون العرب والمسلمون التقوا سابقاً بالغرب فكراً وممارسةً فكان لهم رؤيا منبهرة بالغرب ومنتجاته الفكرية والتحديثية، والتي تحولت بفعل استعمار الدول العربية إلى لغة عداءٍ واتهامٍ فأصبح العلماني في نظر الشعوب العربية الإسلامية كافراً وملحداً وعدواً للدين وطغى إلى سطح الساحة السياسية تصوّر سياسي يستند إلى الدين ويطمح إلى إقامة دولة دينية إسلامية، لكنّه لقي ردود فعلٍ من قِبل العديد من المفكرين؛ فمنهم من رفع شعار ” العلمانية هي الحل ” في وجه شعار ” الإسلام هو الحل “، ومنهم من ألحّ على مطلب ” الدولة المدنية ” ردّاً على مطلب ” الدولة الدينية “، فالنقاش الحاد الذي ساد حول مسألة العلمانية ونفور البعض منه أدى إلى سحب هذا المصطلح نوعاً ما من التداول في المنطقة الإسلامية واستعاض عنه الفكر العربي الإسلامي بمصطلح ” المدنية ” فرُفع شعار الدولة المدنية مقابل شعار الدولة الدينية الإسلامية.

ومن أبرز المفكّرين الذين روّجوا لفكرة العلمانية بطرس البستاني الذي كتب في سياق تعليقه على الفتنة الطائفية التي اشتعلت نارها في لبنان وسوريا سنة 1860 م، يجب وضع حاجز بين الرئاسة (السلطة الروحية) والسياسة (السلطة المدنية)، لأنّ الرئاسة تتعلق بأمورٍ داخليةٍ ثابتةٍ لا تتغيّر بتغيّر الأزمان والأحوال بخلاف السياسة التي تتعلق بأمورٍ خارجيةٍ غير ثابتةٍ وقابلةٍ للتغيير والإصلاح بحسب المكان والزمان والأحوال، لذلك كان المزج بين هاتين السلطتين المتضادتين من شأنه أن يُلحق ضرراً واضحاً في الأحكام والأديان بل إنّه يستحيل في حال المزج بينهما وجود التمدّن ونموّه، ويقول إنّ العلمانية لا تعني معاداة الدين ولا محاربته وإنّما تعني فصل ما هو دنيوي عمّا هو آخروي، وذلك بجعل السلطة السياسية والتعليم وجميع المرافق العامّة في أيدي رجال محايدين من الناحية الدينية.

كما يرى فرح أنطون أنّ الدين يبتغي العبادة والفضيلة وفقاً للكتب المنزّلة، ولمّا كان كل دينٍ يدّعي الحقيقة لنفسه ويطلب من الناس أن يسلكوا سبيله، كان من الطبيعي للسلطات الدينية إذا امتلكت سلطةً سياسيةً أن تضطهد الذين يخالفونها ولا سيّما المفكرين. أمّا الحكومات البعيدة عن الدين لا تضطهد الناس بسبب آرائهم لأنّ غاية الحكم هي صيانة الحرية البشرية في حدود الدستور، وكذلك إنّ السلطات الدينية تُشرّع للآخرة على خلاف الحكومة التي تُشرّع لهذا العالم وهذا يؤدي إلى تعارض هاتين السلطتين مع بعضهما البعض، والمجتمع الصالح يقوم على المساواة المطلقة بين جميع أبناء الأمّة ويتعدّى الفروق بين الأديان، فالدولة التي يسيطر عليها الدين ضعيفةٌ لأنّها تظلّ تحت رحمة مشاعر الناس وهذا يُضعف حتى الدين نفسه إذ يُنزله إلى حلبة السياسة ويعرّضه لجميع أخطارها، كما أنّ الحكومات الدينية تؤدي إلى الحرب فالمصالح الدينية مختلفةٌ تتعارض مع بعضها البعض، ولمّا كان الولاء الديني قويّاً بين الناس فمن الممكن دائماً أن يُثير المشاكل. ويرى أنطون أنّ الدين علاقةٌ خصوصيةٌ بين الخالق والمخلوق، وأنّ الإنسان بغض النظر عن دينه ومذهبه هو صاحب الحق في كل خيرات الأمّة ومصالحها ووظائفها الكبرى والصغرى وحتى رئاسة الأمّة نفسها، وهذا الحق لا يثبت له لكونه يُدينُ بدينٍ معيّنٍ بل يثبت له لمجرّد كونه إنساناً، فالإنسانية هي الإخاء العام الذي يجب أن يشمل جميع البشر.

وهناك من حاول التأسيس للفصل بين الدين والدولة بحججٍ دينيةٍ مستنبطةٍ من النصوص على غرار محمد سعيد العشماوي الذي قال: ” إنّ السياسة لا تكون من الدين أبداً وإنّ اعتبار الإسلام ديناً سياسياً ليس سوى فهمٍ جاهليٍ وترديدٍ لآراء وأقوال أعداء الإسلام مثل أبي سفيان قبل إسلامه وابن الزبعرى والوليد بن عبد الملك وغيرهم ممّن كانوا يرون ويقولون: إنّ النبوة سبيلٌ للسياسة، والرسالة سببٌ للتملّك، والشريعة طريقٌ للتحزّب، والجهاد سبيلٌ للمغانم…”.

وكذلك علي عبد الرازق الذي قال أنّه كان من مصلحة السلاطين أن يرّوجوا بين الناس لذلك المفهوم الخاطئ الذي يقول أنّ الخلافة زعامةٌ دينيةٌ، حتى يتّخذوا من الدين درعاً يحمي عروشهم وليبرروا قتال الخارجين عليهم، حتى أنّهم أفهموا الناس أنّ طاعة الأئمة من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله، ولم يكن للخلفاء أن يكتفوا بذلك ولا رضوا بما رضي به أبو بكر ولا غضبوا ممّا غضب منه، وهو غضبه عندما لقّبه الناس خليفة الله فقال لهم إنّما أنا خليفة رسول الله، بل هم جعلوا السلطان خليفة الله في الأرض وظلّه الممدود على العباد. ولهذا التصقت الخلافة بالدين وصارت جزءاً من عقائد التوحيد يدرسها المسلم مع صفات الله ورسله، ويُلقَّنَها كما يُلقَّن شهادة لا إله إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله. وهذه هي جريمة الملوك؛ حيث أضلّوا المسلمين عن الهدى وحجبوا عنهم الحق والنور باسم الدين، واستبدوا بهم وأذلوهم باسم الدين أيضاً، وحرّموا عليهم النظر والبحث في علوم السياسة بل حتى في مسائل الإدارة الصرفة وكل أبواب العلم التي تمس شؤون الخلافة والحكم، وضيّقوا على عقولهم حتى صاروا لا يرون غير الدين مرجعاً لهذه المسائل الدنيوية، فماتت قوى البحث ونشاط الفكر وأصيب المسلمون بشللٍ في التفكير والنظر في كل ما يتصل بشأن الخلافة والخلفاء وتسيير أمورهم الدنيوية.

والحق أنّ الدين الإسلامي بريءٌ من تلك الخلافة التي تعارف عليها المسلمون حتى يومنا هذا، وبريءٌ من كل ما أحاطها الحُكّام به من رغبةٍ ورهبةٍ وعزٍّ وقوةٍ، فالخلافة لسيت جزءاً من الخُطط الدينية ولا حتى القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم والدولة، وإنّما هذه كلّها أمورٌ سياسيةٌ صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم يُنكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنّما تركها للبشر ليرجعوا فيها إلى أحكام العقل وقواعد السياسة وتجارب الأمم، فتدبير الجيوش وعمارة المدن والثغور ونظام الدواوين وغيرها لا شأن للدين بها وإنّما يُرجع فيها إلى العقل والعلم والتجريب وآراء العارفين. ومنه فلا شيء يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في جميع العلوم ومنها علم الاجتماع والسياسة، وأن يهدموا نظام الخلافة العتيق الذي ذلّوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا دولهم وأنظمة حكوماتهم على أحدث ما انتجته العقول البشرية وأمتن ما دلّت عليه تجارب الأمم.

ودافع أيضاً عبد الرحيم العلّام عن العلمانية، فرأى أنّ الربط بين الإسلام والسياسة والدولة جعل الإنسان عاجزاً عن تدبير شؤونه الروحية وكل ما يتعلق بحياته الدنيوية، وهذا يتناقض مع النصوص الدينية التي تُلحّ على أفضلية الإنسان بالعقل وقدرته على التعرف على لُبّ الرسالة السماوية دون الحاجة إلى أيّة تفاصيلٍ من الوحي. أي بمعنى آخر لا توجد أيّة فائدة من ملكة العقل المودعة لدى الإنسان ما دام ليس بمقدوره توظيفها إلّا بتقليد ما يأتي على أفواه من يتأولون النصوص الدينية، ويخرجونها من سياقها التاريخي، فالكتب السماوية وما تحتويه من نصوصٍ مرتبطةٍ بزمان ومكان معيّنين، وبما أن ّ القضايا المطروحة على الإنسان لا يمكن حصرها فإنّه من الطبيعي أن تكتفي هذه الكتب بالإشارات العامّة التي تحدد المُثل العليا والأهداف السامية (العدل، الصدق، التضامن، التسامح…)، أمّا باقي تفاصيل الحياة الإنسانية فهي متروكة لاجتهاد الإنسان.

وسنكمل في مقالٍ لاحق… يتبع

 الحركة المدنيّة السوريّة | اللجنة الثقافيّة
لمى اللبواني (ناشطة حقوقيّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى